أما قوله تعالى : ( فالموريات قدحا ) .
فاعلم أن الإيراء إخراج النار ، والقدح الصك تقول : قدح فأورى وقد فأصلد ، ثم في تفسير الآية وجوه :
[ ص: 62 ]
أحدها : قال : يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزند إذا قدح ، وقال ابن عباس مقاتل : يعني الخيل تقدحن بحوافرهن في الحجارة نارا كنار الحباحب ، والحباحب اسم رجل كان بخيلا لا يوقد النار إلا إذا نام الناس ، فإذا انتبه أحد أطفأ ناره لئلا ينتفع بها أحد . فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ومن الناس من يقول : إنها نعل الحديد يصك الحجر فتخرج النار ، والأول أبلغ لأن على ذلك التقدير تكون السنابك نفسها كالحديد .
وثالثها : قال قوم : هذه الآيات في الخيل ، ولكن إيراؤها أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم ، كما قال تعالى : ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) [ المائدة : 64 ] ومنه يقال للحرب إذا التحمت : حمي الوطيس .
وثالثها : هم الذين يغزون فيورون بالليل نيرانهم لحاجتهم وطعامهم ( فالموريات ) هم الجماعة من الغزاة .
ورابعها : إنها هي الألسنة توري نار العداوة لعظم ما تتكلم به .
وخامسها : هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة ، روي ذلك عن ، ويقال : لأقدحن لك ثم لأورين لك ، أي لأهيجن عليك شرا وحربا ، وقيل : هو المكر إلا أنه مكر بإيقاد النار ليراهم العدو كثيرا ، ومن عادة العرب عند الغزو إذا قربوا من العدو أن يوقدوا نيرانا كثيرة ، لكي إذا نظر العدو إليهم ظنهم كثيرا . ابن عباس
وسادسها : قال عكرمة : الموريات قدحا : الأسنة .
وسابعها : ( فالموريات قدحا ) أي فالمنجحات أمرا ، يعني الذين وجدوا مقصودهم وفازوا بمطلوبهم من الغزو والحج ، ويقال للمنجح في حاجته : ورى زنده ، ثم يرجع هذا إلى الجماعة المنجحة ، ويجوز أن يرجع إلى الخيل ينجح ركبانها قال جرير :
وجدنا الأزد أكرمهم جوادا وأوراهم إذا قدحوا زنادا
ويقال : فلان إذا قدح أورى ، وإذا منح أروى ، واعلم أن الوجه الأول أقرب لأن لفظ الإيراء حقيقة في إيراء النار ، وفي غيره مجاز ، ولا يجوز ترك الحقيقة بغير دليل .