( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين )
قوله تعالى : ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين )
واعلم أنه تعالى لما بين كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه بكيفية عقوبتهم في الآخرة ، ليحصل منه تمام الاعتبار في الزجر والتحذير ، وقرأ نافع " نحشر " بالنون " أعداء " بالنصب أضاف الحشر إلى نفسه ، والتقدير يحشر الله عز وجل أعداءه الكفار من الأولين والآخرين ، وحجته أنه معطوف على قوله : ( ونجينا ) [ فصلت : 18 ] فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ، ويقويه قوله : ( يوم نحشر المتقين ) ( وحشرناهم ) وأما الباقون [ ص: 100 ] فقرءوا على فعل ما لم يسم فاعله ؛ لأن قصة ثمود قد تمت ، وقوله : ( ويوم يحشر ) ابتداء كلام آخر ، وأيضا الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله : ( احشروا ) [ الصافات : 22 ] وهم الملائكة ، وأيضا إن هذه القراءة موافقة لقوله ( فهم يوزعون ) وأيضا فتقدير القراءة الأولى أن الله تعالى قال : " ويوم نحشر أعداء الله إلى النار " فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : ويوم نحشر أعداءنا إلى النار .
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن قال : ( أعداء الله يحشرون إلى النار فهم يوزعون ) أي يحبس أولهم على آخرهم ، أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم ، والمقصود بيان أنهم إذا اجتمعوا سألوا عن أعمالهم .
ثم قال : ( حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التقدير حتى إذا جاءونا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وعلى هذا التقدير فكلمة " ما " صلة ، وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله : ( أثم إذا ما وقع آمنتم به ) [ يونس : 51 ] أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به .
المسألة الثانية : روي أن شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ) . العبد يقول يوم القيامة : يا رب العزة ألست قد وعدتني أن لا تظلمني ، فيقول الله تعالى : فإن لك ذلك ، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهدا إلا من نفسي ، فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه بالأعمال التي صدرت منه ، فذلك قوله : (
واختلف الناس في كيفية الشهادة ، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه .
والثاني : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة .
والثالث : أن يظهر تلك الأعضاء أحوالا تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان ، وتلك الأمارات تسمى شهادات ، كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه ، واعلم أن هذه المسألة صعبة على المعتزلة .
أما القول الأول : فهو صعب على مذهبهم ؛ لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة ، فاللسان مع كونه لسانا يمتنع أن يكون محلا للعلم والعقل ، فإن غير الله تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لسانا وجلدا ، وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجلود ، فإن قلنا : إن الله تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها ناطقة فاهمة ، وأما القول الثاني : وهو أن يقال : إن الله تعالى خلق هذه الأصوات والحروف في هذه الأعضاء ، وهذا أيضا باطل على أصول المعتزلة ؛ لأن مذهبهم أن المتكلم هو الذي فعل الكلام ، لا ما كان موصوفا بالكلام ، فإنهم يقولون : إن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة ، وكان المتكلم بذلك الكلام هو الله تعالى لا الشجرة ، فههنا لو قلنا : إن الله خلق الأصوات والحروف في تلك الأعضاء لزم أن يكون الشاهد هو الله تعالى لا تلك ، ولزم أن يكون المتكلم بذلك الكلام هو الله لا تلك الأعضاء ، وظاهر القرآن يدل على أن تلك الشهادة شهادة صدرت من تلك الأعضاء لا من الله تعالى ؛ لأنه تعالى قال : ( شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ) وأيضا أنهم قالوا لتلك الأعضاء ( لم شهدتم علينا ) فقالت الأعضاء : ( أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) وكل هذه الآيات دالة على أن المتكلم بتلك الكلمات هي تلك الأعضاء ، وأن تلك الكلمات ليست كلام الله تعالى ، فهذا توجيه الإشكال على هذين القولين .
وأما القول الثالث : وهو تفسير هذه الشهادة بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، فهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والأصل عدمه ، فهذا [ ص: 101 ] منتهى الكلام في هذا البحث ، أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم ؛ لأن عندنا البنية ليست شرطا للحياة ولا للعلم ولا للقدرة ، فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء ، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطا للحياة ، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سببا وفائدة ، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد ، فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس ، وأهمل ذكر نوعين : وهما الذوق والشم ؛ لأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه ؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام ، فكان هذا داخلا فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان ، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، إذا عرفت هذا فنقول : نقل عن أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج قال : وهذا من باب الكنايات كما قال : ( ابن عباس ولكن لا تواعدوهن سرا ) [ البقرة : 235 ] وأراد النكاح ، وقال : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) [ النساء : 43 ] والمراد قضاء الحاجة .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيدا شديدا في الإتيان بالزنا ؛ لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ، ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ . "
ثم حكى الله تعالى أنهم يقولون لتلك الأعضاء ( لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ) ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء ؟
ثم قال تعالى : ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ) والمعنى إثبات أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة ، إلا أن استتارهم ما كان لأجل خوفهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة ، ولكن ذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يقدمون عليها على سبيل الخفية والاستتار .
ابن مسعود قال : كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر علي ثقفيان وقرشي فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما تقولون ؟ فقال الرجلان إذا سمعنا أصواتنا سمع وإلا لم يسمع . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل ( وما كنتم تستترون ) . عن
ثم قال تعالى : ( وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) وهذا نص صريح في أن فإنه يكون من الهالكين الخاسرين ، قال أهل التحقيق : الظن قسمان ظن حسن بالله تعالى وظن فاسد ، أما الظن الحسن فهو أن يظن به الرحمة والفضل ، قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل : " أنا من ظن بالله تعالى أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه " وقال صلى الله عليه وسلم : " عند ظن عبدي بي لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " ، والظن القبيح فاسد وهو أن يظن بالله أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال ، وقال قتادة : الظن نوعان ظن منج وظن مرد ، فالمنجي قوله : ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) [ الحاقة : 20 ] وقوله : [ ص: 102 ] ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) [ البقرة : 46 ] ، وأما الظن المردي فهو قوله : ( وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم ) قال صاحب " الكشاف " : " وذلكم " رفع بالابتداء " وظنكم " و " أرداكم " خبران ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذالكم وأرداكم الخبر .
ثم قال : ( فإن يصبروا فالنار مثوى لهم ) يعني إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاما لهم ( وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين ) أي لم يعطوا العتبى ، ولم يجابوا إليها ، ونظيره قوله تعالى : ( أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) [ إبراهيم : 21 ] وقرئ : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين أي : إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون أي لا سبيل لهم إلى ذلك .