ولا ترى الضب بها ينجحر
ولفظ الطاعة يقتضي حصول المرتبة ، فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله ; لأنه ليس في الوجود أحد أعلى حالا من الله تعالى حتى يقال : إن الله يطيعه . الوجه الثاني في الجواب أن المراد من الظالمين هاهنا الكفار ، والدليل عليه أن هذه الآية وردت في زجر الكفار ( الذين يجادلون في آيات الله ) [غافر : 35] فوجب أن يكون مختصا بهم ، وعندنا أنه . والثالث : أن لفظ الظالمين ، إما أن يفيد الاستغراق ، وإما أن لا يفيد ، فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم وجملتهم ، ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار ، وعندنا أنه ليس لهذا المجموع شفيع ; لأن بعض هذا المجموع هم الكفار وليس لهم شفيع ، فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع ، وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفا بهذه الصفة ، وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع وهم الكفار ، أجاب المستدلون عن السؤال الأول ، فقالوا : يجب حمل كلام الله تعالى على محمل مفيد ، وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله ; لأن المطيع أدون حالا من المطاع ، وليس في الوجود شيء أعلى مرتبة من الله تعالى حتى يقال : إن الله يطيعه ، وإذا كان هذا المعنى معلوما بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجا لها عن الفائدة ، فوجب حمل الطاعة على الإجابة ، والذي يدل على ورود لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قول الشاعر : لا شفاعة في حق الكفار
رب من أنضجت غيظا صدره قد تمنى لي موتا لم يطع
أما السؤال الثاني : فقد أجابوا عنه بأن لفظ الظالمين صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم ، أقصى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكفار ; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
أما السؤال الثالث : فجوابه أن قوله : ( ما للظالمين من حميم ) يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع ، فهذا تمام كلام القوم في تقرير ذلك الاستدلال .
أجاب أصحابنا عن السؤال الأول فقالوا : إن القوم كانوا يقولون في الأصنام : إنها شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يقولون : إنها تشفع لنا عند الله من غير حاجة فيه إلى إذن الله ، ولهذا السبب رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [البقرة : 255] فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله إجابة الأصنام في تلك الشفاعة ، وهذا نوع طاعة ، فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله : ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) [ ص: 46 ] وأجابوا عن الكلام الثاني بأن قالوا : الأصل في حرف التعريف أن ينصرف إلى المعهود السابق ، فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع ، وكان هناك معهود سابق انصرف إليه ، وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله ، فوجب أن ينصرف إليه ، وأجابوا عن الكلام الثالث بأن قالوا : قوله : ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) يحتمل عموم السلب ، ويحتمل سلب العموم ، أما الأول فعلى تقدير أن يكون المعنى أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع ، وأما الثاني فعلى تقدير أن يكون المعنى أن مجموع الظالمين ليس لهم حميم ولا شفيع ، ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع ، والذي يؤكد ما ذكرناه قوله تعالى : ( الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [البقرة : 6] فقوله : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، إن حملناه على أن كل واحد منهم محكوم عليه بأنه لا يؤمن لزم وقوع الخلف في كلام الله ; لأن كثيرا ممن كفر فقد آمن بعد ذلك ، أما لو حملناه على أن مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن ، صدق وتخلص عن الخلف ، فلا جرم حملنا هذه الآية على سلب العموم ، ولم نحملها على عموم السلب ، فكذا قوله : ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع ) يجب حمله على سلب العموم لا على عموم السلب ، وحينئذ بطل استدلال المعتزلة بهذه الآية ، فهذا غاية الكلام في هذا الباب .
المسألة الرابعة : في بيان نظم الآية ، فنقول : إنه تعالى ذكر في هذه الآية جميع الأسباب الموجبة للخوف . فأولها : أنه سمى ذلك اليوم ، أي يوم القرب من عذابه لمن ابتلي بالذنب العظيم ; لأنه إذا قرب زمان عقوبته كان في أقصى غايات الخوف ، حتى قيل : إن تلك الغموم والهموم أعظم في الإيحاش من عين تلك العقوبة . يوم الآزفة
والثاني قوله : ( إذ القلوب لدى الحناجر ) والمعنى أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن انقلع القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة والتصق بها وصار مانعا من دخول النفس . والثالث قوله : ( كاظمين ) والمعنى أنه لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الحزن والخوف ، وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب . والرابع قوله : ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) فبين أنه ليس لهم قريب ينفعهم ، ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته . والخامس قوله : ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) والمعنى ، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب منه شديدا جدا ، قال صاحب "الكشاف" : الخائنة صفة النظرة أو مصدر بمعنى الخائنة ، كالعافية المعافاة ، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب ، والمراد بقوله : ( أنه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما تخفي الصدور ) مضمرات القلوب ، والحاصل أن الأفعال قسمان : أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، أما أفعال الجوارح ، فأخفاها خائنة الأعين ، والله أعلم بها ، فكيف الحال في سائر الأعمال .
وأما أفعال القلوب ، فهي معلومة لله تعالى لقوله : ( وما تخفي الصدور ) فدل هذا على كونه تعالى عالما بجميع أفعالهم . السادس : قوله تعالى : ( والله يقضي بالحق ) وهذا أيضا يوجب عظم الخوف ; لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال ، وثبت منه أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل ، كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى . السابع : أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام ، وقد بين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة ، فقال : ( والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ) الثامن : قوله ( إن الله هو السميع البصير ) أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ، ولا يسمع منهم ثناءهم على الله ، ويبصر خضوعهم وسجودهم لهم ، ولا يبصر خضوعهم [ ص: 47 ] وتواضعهم لله ، فهذه الأحوال الثمانية إذا اجتمعت في حق المذنب الذي عظم ذنبه كان بالغا في التخويف إلى الحد الذي لا تعقل الزيادة عليه ، ثم إنه تعالى لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال : ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ) والمعنى أن العاقل من اعتبر بغيره ، فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار ، وأقوى آثارا في الأرض منهم ، والمراد حصونهم وقصورهم وعساكرهم ، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله بضروب الهلاك معجلا حتى إن هؤلاء الحاضرين من الكفار يشاهدون تلك الآثار ، فحذرهم الله تعالى من مثل ذلك بهذا القول ، وبين بقوله : ( وما كان لهم من الله من واق ) أنه لما نزل العذاب بهم عند أخذه تعالى لهم لم يجدوا من يعينهم ويخلصهم ، ثم بين أن ذلك نزل بهم لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل ، فحذر قوم الرسول من مثله ، وختم الكلام بأنه ( قوي شديد العقاب ) مبالغة في التحذير والتخويف ، والله أعلم .
وقرأ ابن عامر وحده "كانوا هم أشد منكم" بالكاف ، والباقون بالهاء . أما وجه قراءة ابن عامر فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب ، كقوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) [الفاتحة : 5] بعد قوله : ( الحمد لله ) [الفاتحة : 1] والوجه في حسن هذا الخطاب أنه في شأن أهل مكة ، فجعل الخطاب على لفظ المخاطب الحاضر لحضورهم ، وهذه الآية في المعنى كقوله : ( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) [الأنعام : 6] وأما قراءة الباقين على لفظ الغيبة فلأجل موافقة ما قبله من ألفاظ الغيبة .