الصفة الثالثة : قوله ( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) وفيه مباحث :
البحث الأول : اختلفوا في المراد بهذا الروح ، والصحيح أن المراد هو الوحي ، وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره ) [النحل : 2] وقال أيضا : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) [الأنعام : 122] وحاصل الكلام فيه : أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية ، فإذا كان الوحي سببا لحصول هذه الأرواح سمي بالروح ، فإن الروح سبب لحصول الحياة والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية .
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات ، وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام ، فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي ، ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ; ليصير الحصر بهذا الطريق معاضدا للعقل ، فهاهنا أيضا كذلك ، فقوله : ( رفيع الدرجات ) إما أن يكون بمعنى كونه رافعا للدرجات ، وهو إشارة إلى تأثير في إيجاد الممكنات على اختلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها ، أو إلى كونه تعالى مرتفعا في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات ، فهذا الكلام عقلي برهاني ، ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير ; وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وإما [ ص: 40 ] روحانيات ، فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى ، أما الجسمانيات فأعظمها العرش ، فقوله : ( قدرة الله تعالى ذو العرش ) يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام ، ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكدا لذلك المعقول ، أعني قوله : ( رفيع الدرجات ) وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه ، وإليه الإشارة بقوله : ( يلقي الروح من أمره ) .
واعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي ، والوحي إنما يتم بأركان أربعة ; فأولها : المرسل وهو الله سبحانه وتعالى ، فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال : ( يلقي الروح ) والركن الثاني : الإرسال والوحي ، وهو الذي سماه بالروح . والركن الثالث أن ، وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله : ( وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة من أمره ) فالركن الروحاني يسمى أمرا ، قال تعالى : ( وأوحى في كل سماء أمرها ) [فصلت : 12] وقال : ( ألا له الخلق والأمر ) [الأعراف : 54] . والركن الرابع : الأنبياء الذين يلقي الله الوحي إليهم وهو المشار إليه بقوله : ( على من يشاء من عباده ) . والركن الخامس : تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء هذا الوحي إليهم ، وذلك هو أن ، ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات ، وإليه الإشارة بقوله : ( الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون ) فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية .
وبقي هاهنا أن نبين أنه ما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق؟ وكم الصفات التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ليوم التلاق؟
أما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ففيه وجوه :
الأول : أن الأرواح كانت متباينة عن الأجساد فإذا جاء يوم القيامة صارت الأرواح ملاقية للأجساد فكان ذلك اليوم يوم التلاق .
الثاني : أن الخلائق يتلاقون فيه فيقف بعضهم على حال البعض .
الثالث : أن أهل السماء ينزلون على أهل الأرض فيلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، قال تعالى : ( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ) [الفرقان : 25]
الرابع : أن كل أحد يصل إلى جزاء عمله في ذلك اليوم فكان ذلك من باب التلاق ، هو مأخوذ من قولهم : فلان لقي عمله .
الخامس : يمكن أن يكون ذلك مأخوذا من قوله : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه ) [الكهف : 110] ومن قوله : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [الأحزاب : 44] .
السادس : يوم يلتقي فيه العابدون والمعبودون .
السابع : يوم يلتقي فيه آدم عليه السلام وآخر ولده .
الثامن : قال يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم ، فربما ظلم الرجل رجلا وانفصل عنه ، ولو أراد أن يجده لم يقدر عليه ولم يعرفه ، ففي يوم القيامة يحضران ويلقى بعضهم بعضا . ميمون بن مهران
وقرأ ابن كثير (التلاقي والتنادي) بإثبات الياء في الوصل والوقف ، و (هادي وواقي) ، بالياء في الوقف ، وبالتنوين في الوصل .
وأما بيان أن الله تعالى كم عدد من الصفات ووصف بها في هذه الآية ، فنقول : يوم القيامة
الصفة الأولى : كونه يوم التلاق ، وقد ذكرنا تفسيره .
الصفة الثانية : قوله : ( يوم هم بارزون ) وفي تفسير هذا البروز وجوه :
الأول : أنهم برزوا عن بواطن القبور . الثاني : بارزون ؛ أي ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ; لأن الأرض بارزة قاع [ ص: 41 ] صفصف ، وليس عليهم أيضا ثياب إنما هم عراة مكشوفون ، كما جاء في الحديث : " " . الثالث : أن يجعل كونهم بارزين كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم ، كما قال تعالى : ( يحشرون عراة حفاة غرلا يوم تبلى السرائر ) [الطارق : 9] . الرابع : أن هذه النفوس الناطقة البشرية كأنها في الدنيا انغمست في ظلمات أعمال الأبدان ، فإذا جاء يوم القيامة أعرضت عن الاشتغال بتدبير الجسمانيات وتوجهت بالكلية إلى عالم القيامة ومجمع الروحانيات ، فكأنها برزت بعد أن كانت كامنة في الجسمانيات مستترة بها .
الصفة الثالثة : قوله : ( لا يخفى على الله منهم شيء ) والمراد يوم لا يخفى على الله منهم شيء ، والمقصود منه الوعيد فإنه تعالى بين أنهم إذا برزوا من قبورهم واجتمعوا وتلاقوا فإن الله تعالى يعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلا بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فهم وإن لم يعلموا تفصيل ما فعلوه ، فالله تعالى عالم بذلك ، ونظيره قوله : ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) [الحاقة : 18] وقال : ( يوم تبلى السرائر ) [الطارق : 9] وقال : ( إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ) [العاديات : 9 ، 10] وقال : ( يومئذ تحدث أخبارها ) [الزلزلة : 4] فإن قيل : الله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء في جميع الأيام ، فما معنى تقييد هذا المعنى بذلك اليوم؟ قلنا : إنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله لا يراهم ، وتخفى عليه أعمالهم ، فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدنيا ، قال تعالى : ( ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ) [فصلت : 22] وقال : ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ) [النساء : 108] وهو معنى قوله : ( وبرزوا لله الواحد القهار ) .