أما قوله تعالى : ( لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ) ، فاعلم أن هذا هو الجواب عن تلك الشبهة ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير كونه جوابا ، وذلك من وجوه :
أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد ثبتت دلالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض الاستكبار والتعنت . نبوة
وثانيها : أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ، ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك ، بل لعموم كونه معجزا ، فيكون قبول ذلك المعجز ورد ذلك المعجز الآخر ترجيحا لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجح ، وهو محض الاستكبار والتعنت .
وثالثها : أنهم بتقدير أن يروا الرب ويسألوه عن صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو سبحانه يقول : نعم هو رسولي ، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنا بينا أن المعجز يقوم مقام التصديق بالقول ؛ إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول : اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت ، فيحييه الله تعالى ، والعادة لم تجر بمثله ، وبين أن يقول له : صدقت ، وإذا كان التصديق الحاصل بالقول أو الحاصل بالمعجز في كونه تصديقا للمدعي كان تعيين أحدهما محض الاستكبار والتعنت .
ورابعها : وهو أنا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى يفعل بحسب المصالح ، على ما يقوله المعتزلة ، أو نقول : على ما يقوله أصحابنا ، فإن كان الأول لم يجز لهم أن يعينوا المعجز ؛ إذ ربما كان إظهار ذلك المعجز مشتملا على مفسدة لا يعرفها إلا الله تعالى ، وكان التعيين استكبارا وعتوا من حيث إنه لما ظنه مصلحة قطع بكونه مصلحة ، فمن قال ذلك فقد اعتقد في نفسه أنه عالم بكل المعلومات ، وذلك استكبار عظيم ، وإن كان الثاني وهو قول أصحابنا فليس للعبد أن يقترح على ربه ، فإنه سبحانه فعال لما يريد ، فكان الاقتراح استكبارا وعتوا وخروجا عن حد العبودية إلى مقام المنازعة والمعارضة . إن الله تعالى يفعل بحسب المشيئة
وخامسها : وهو أن الإحسان إلى الخلق ، فالملك الكبير إذا أحسن إلى [ ص: 61 ] بعض الضعفاء رحمة عليه فأخذ ذلك الضعيف إلى اللجاج والنزاع ، ويقول : لا أريد هذا ، بل أريد ذاك ، حسن أن يقال : إن هذا المكدي قد استكبر في نفسه وعتا عتوا شديدا من حيث لا يعرف قدر نفسه ومنتهى درجته ، فكذا ههنا . المقصود من بعثة الأنبياء
وسادسها : يمكن أن يكون المراد أن الله تعالى قال : لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت ، فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به ، فلا جرم لا أعطيهم ذلك ، وهذا التأويل يعرف من اللفظ .
وسابعها : لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن ، الله تعالى لا يرى في الدنيا ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل التعنت أو على سبيل الاستهزاء . وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق