( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون )
قوله تعالى :( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون )
اعلم أنه تعالى لما ذكر فقال : وإذا ما أنزلت سورة ، فمن المنافقين من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ؟ واختلفوا فقال بعضهم : يقول بعض المنافقين لبعض ، ومقصودهم تثبيتهم قومهم على النفاق ، وقال آخرون : بل يقولونه لأقوام من المسلمين ، وغرضهم صرفهم عن الإيمان . وقال آخرون : بل ذكروه على وجه الهزء ، والكل محتمل ، ولا يمكن حمله على الكل ، لأن حكاية الحال لا تفيد العموم . ثم إنه تعالى أجاب فقال إنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران ، وحصل للكافرين أيضا أمران . أما الذي حصل للمؤمنين : مخازي المنافقين وذكر أعمالهم القبيحة
فالأول : هو أنها تزيدهم إيمانا إذ لا بد عند نزولها من أن يقروا بها ويعترفوا بأنها حق من عند الله ، والكلام في قد ذكرناه في أول سورة الأنفال بالاستقصاء . زيادة الإيمان ونقصانه
والثاني : ما يحصل لهم من الاستبشار . فمنهم من حمله على ثواب الآخرة ، ومنهم من حمله على ما يحصل في الدنيا من النصر والظفر ، ومنهم من حمله على الفرح والسرور الحاصل بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل به إلى مزيد في الثواب ، ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين في المؤمنين ، فقال :( وأما الذين في قلوبهم مرض ) يعني المنافقين( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) والمراد من الرجس إما العقائد الباطلة أو الأخلاق المذمومة ، فإن كان الأول كان المعنى أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك ، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة ، فقد انضم كفر إلى كفر ، وإن كان الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد ، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة .
والأمر الثاني : أنهم يموتون على كفرهم ، فتكون هذه الحالة كالأمر المضاد للاستبشار الذي حصل في المؤمنين ، وهذه الحالة أسوأ وأقبح من الحالة الأولى ، وذلك لأن الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرجاسة ، وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه . واحتج أصحابنا بقوله :( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويصرف عنه ، قالوا : إنه تعالى كان عالما بأن سماع هذه السورة يورث حصول [ ص: 184 ] الحسد والحقد في قلوبهم ، وأن حصول ذلك الحسد يورث مزيد الكفر في قلوبهم ، أجابوا وقالوا نزول تلك السورة لا يوجب ذلك الكفر الزائد ، بدليل أن الآخرين سمعوا تلك السورة وازدادوا إيمانا ، فثبت أن تلك الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم .
قلنا : لا ندعي أن استماع هذه السورة سبب مستقل بترجيح جانب الكفر على جانب الإيمان ، بل نقول استماع هذه السورة للنفس المخصوصة والموصوفة بالخلق المعين والعادة المعينة . يوجب الكفر . والدليل عليه أن الإنسان الحسود لو أراد إزالة خلق الحسد عن نفسه ، يمكنه أن يترك الأفعال المشعرة بالحسد ، وأما الحالة القلبية المسماة بالحسد ، فلا يمكنه إزالتها عن نفسه ، وكذا القول في جميع الأخلاق فأصل القدرة غير ، والفعل غير ، والخلق غير ، فإن أصل القدرة حاصل للكل أما الأخلاق فالناس فيها متفاوتون . والحاصل أن النفس الطاهرة النقية عن حب الدنيا الموصوفة باستيلاء حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت السورة صار سماعها موجبا لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا ، وأما النفس الحريصة على الدنيا المتهالكة على لذاتها الراغبة في طيباتها الغافلة عن حب الله تعالى والآخرة ، إذا سمعت هذه السورة المشتملة على الجهاد وتعريض النفس للقتل والمال للنهب ازداد كفرا على كفره . فثبت أن إنزال هذه السورة في حق هذا الكافر موجب لأن يزيد رجسا على رجس ، فكان إنزالها سببا في تقوية الكفر على قلب الكافر وذلك يدل على ما ذكرنا أنه تعالى قد يصد الإنسان ويمنعه عن الإيمان والرشد ويلقيه في الغي والكفر .
بقي في الآية مباحث :
الأول : " ما " في وإذا ما أنزلت سورة ) صلة مؤكدة . قوله :(
الثاني : الاستبشار استدعاء البشارة ؛ لأنه كلما تذكر تلك النعمة حصلت البشرة ، فهو بواسطة تجديد ذلك التذكر يطلب تجديد البشارة .
الثالث : قوله :( وأما الذين في قلوبهم مرض ) يدل على أن الروح لها مرض ، فمرضها الكفر والأخلاق الذميمة ، وصحتها العلم والأخلاق الفاضلة . والله أعلم .