ثم قال تعالى :( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ) قرئ : " عدته " ، وقرئ أيضا : " عدة " بكسر العين بغير إضافة وبإضافة ، قال : يريد من الزاد والماء والراحلة ؛ لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد ، وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف . وقال آخرون : هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة . ابن عباس
ثم قال تعالى :( ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الانبعاث : الانطلاق في الأمر ، يقال : بعثت البعير فانبعث ، وبعثته لأمر كذا فانبعث ، وبعثه لأمر كذا أي : نفذه فيه . والتثبيط : رد الإنسان عن الفعل الذي هم به ، والمعنى : أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم فصرفهم عنه .
فإن قيل : إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال : إنه كان مفسدة ، وإما أن يقال : إنه كان مصلحة .
فإن قلنا : إنه كان مفسدة ، فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود ؟ وإن قلنا : إنه كان مصلحة ، فلم قال : إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم ؟
والجواب الصحيح : أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة ، بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد ، وهو قوله :( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : 47 ] . بقي أن يقال : فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا ، فلم عاتب الرسول في الإذن ؟ فنقول : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله : لم أذنت لهم أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود ، بل يحتمل أن يقال : إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم ، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال ، قال أبو مسلم : والدليل على صحة ما قلنا أن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة ، فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه ، وتأكد ذلك بسائر الآيات ، منها قوله تعالى :( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ) [ التوبة : 83 ] . ومنها قوله تعالى :( سيقول المخلفون إذا انطلقتم ) [ الفتح : 15 ] إلى قوله :( قل لن تتبعونا ) فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم .
والوجه الثاني من الجواب : أن نسلم أن العتاب في قوله :( لم أذنت لهم ) إنما توجه ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقول : ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص ، وإكمال التأمل والتدبر ؛ ولهذا السبب قال تعالى :( لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) .
والثاني : أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ؛ فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم ، وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم [ ص: 64 ] يغتروا بقولهم ، فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفيا ، وفاتت تلك المصالح .
والثالث : أنهم لما استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال :( اقعدوا مع القاعدين ) على سبيل الزجر ، كما حكاه الله في آخر هذه الآية ، وهو قوله :( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) . ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة ، وقالوا : قد أذن لنا ؛ فقال تعالى :( لم أذنت لهم ) أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم .
الرابع : أن الذين يقولون : غير جائز على الأنبياء عليهم السلام ، قالوا : إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد ، وذلك غير جائز ؛ لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جاريا مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص ، فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك . الاجتهاد
المسألة الثانية : قالت المعتزلة البصرية : الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية ، بدليل قوله تعالى :( ولكن كره الله انبعاثهم ) قال أصحابنا : معنى :( كره الله ) أراد عدم ذلك الشيء . قالت البصرية : العدم لا يصلح أن يكون متعلقا ؛ وذلك لأن ، والعدم : نفي محض ، وأيضا فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، وجعل العدم عدما محال ، فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال ، فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم . الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر
أجاب أصحابنا بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء ، فهو تعالى أراد منهم السكون ، فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارها لخروجهم مع الرسول .
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى :( فثبطهم ) أي : فكسلهم ، وضعف رغبتهم في الانبعاث ، وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق ، وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه ، فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه ، ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة ، إن كانت من العبد لزم التسلسل ، وإن كانت من الله فحينئذ لزم المقصود ؛ لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله ، ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل ، وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر ، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله :( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) [ التوبة : 87 ] .
المسألة الثانية : اختلفوا في أن هذا القول ممن كان ؟ فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة ، ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف ؛ لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله ، ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله ، ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه ؛ لأنه قد كره خروجهم للإفساد ، وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص .