( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )
قوله تعالى :( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول ، وضرب له من الأمثال ما وصفنا ، أتبعه بهذا الأمر الجزم ، فقال :( انفروا خفافا وثقالا ) والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد ، أو على الصفة التي يثقل ، وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة ، والمفسرون ذكروها :
فالأول :( خفافا ) في النفور لنشاطكم له( وثقالا ) عنه لمشقته عليكم .
الثاني :( خفافا ) لقلة عيالكم( وثقالا ) لكثرتها .
الثالث :( خفافا ) من السلاح( وثقالا ) منه .
الرابع : ركبانا ومشاة .
الخامس : شبانا وشيوخا .
السادس : مهازيل وسمانا .
السابع : صحاحا ومراضا والصحيح ما ذكرنا إذ الكل داخل فيه ؛ لأن الوصف المذكور وصف كلي ، يدخل فيه كل هذه الجزئيات .
فإن قيل : أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ؟
[ ص: 57 ] قلنا : ظاهره يقتضي ذلك ، عن أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعلي أن أنفر ؟ قال : "ما أنت إلا خفيف أو ثقيل" فرجع إلى أهله ، ولبس سلاحه ، ووقف بين يديه ، فنزل قوله تعالى :( ابن أم مكتوم ليس على الأعمى حرج ) [النور : 61] وقال : إن مجاهد أبا أيوب شهد بدرا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ، ويقول : قال الله :( انفروا خفافا وثقالا ) فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا .
وعن قال : كنت واليا على صفوان بن عمرو حمص ، فلقيت شيخا قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، قلت : يا عم أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إن من أحبه ابتلاه ، وعن : خرج الزهري إلى الغزو ، وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد ، وحفظت المتاع . سعيد بن المسيب
وقيل وهو يريد الغزو : أنت معذور ، فقال : أنزل الله علينا في سورة براءة( للمقداد بن الأسود انفروا خفافا وثقالا ) .
واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون : هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى :( ليس على الأعمى حرج ) وقال عطاء الخراساني : منسوخة بقوله :( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) [التوبة : 122] .
ولقائل أن يقول : اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك ، واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء ، وخلف من الرجال أقواما ، وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ، لكنه من فروض الكفايات ، فمن أمره الرسول بأن يخرج ، لزمه ذلك خفافا وثقالا ، ومن أمره بأن يبقى هناك ، لزمه أن يبقى ويترك النفر ، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى التزام النسخ .
ثم قال تعالى :( وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ) وفيه قولان :
القول الأول : أن هذا يدل على أن ، فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد ، ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد . الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس
والقول الثاني : أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه ، وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه ، فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفرا بنفقة من عنده ، فيكون مجاهدا بماله لما تعذر عليه بنفسه ، وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء .
ثم قال تعالى :( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) .
فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهاد خير من القعود عنه ، ولا خير في القعود عنه .
قلنا : الجواب عنه من وجهين :
الوجه الأول : أن لفظ( خير ) يستعمل في معنيين :
أحدهما : بمعنى هذا خير من ذاك .
والثاني : بمعنى أنه في نفسه خير كقوله :( إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) [القصص : 24] وقوله :( وإنه لحب الخير لشديد ) [العاديات : 8] ويقال : الثريد خير من الله ، أي : هو خير في نفسه ، وقد حصل من الله تعالى ، فقوله :( ذلكم خير لكم ) المراد هذا الثاني ، وعلى هذا الوجه يسقط السؤال .
الوجه الثاني : سلمنا أن المراد كونه خيرا من غيره ، إلا أن التقدير : أن والتنعم بهما ، ولذلك قال تعالى :( ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة إن كنتم تعلمون ) [ ص: 58 ] لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ، ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق ، وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق .