( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) قوله تعالى :( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكر المفسرون أقوالا في نزول الآية ، قال في بعض الروايات عنه : إن ابن عباس عليا لما أغلظ الكلام للعباس ، قال العباس : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ؛ فنزلت هذه الآية ، وقيل : إن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام ، فنحن أفضل أم محمد وأصحابه ؟ فقالت اليهود لهم : أنتم أفضل ، وقيل : إن عليا عليه السلام قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه : يا عمي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة ؟ أسقي حاج بيت الله ، وأعمر المسجد الحرام ، فلما نزلت هذه الآية قال : ما أراني إلا تارك سقايتنا ، فقال عليه الصلاة والسلام : "أقيموا على سقياتكم ، فإن لكم فيها خيرا" وقيل : افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ، ولو أردت بت فيه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، قال علي : أنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، قال المصنف رضي الله عنه : حاصل الكلام أنه يحتمل أن يقال : هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين ، ويحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين ، أما الذين قالوا : إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين أولئك( أعظم درجة عند الله ) [التوبة : 20] وهذا يقتضي أيضا أن يكون للمرجوح أيضا درجة عند الله ، وذلك لا يليق إلا بالمؤمن وسنجيب عن هذا الكلام إذا انتهينا إليه ، وأما الذين قالوا : [ ص: 11 ] إنها جرت بين المسلمين والكافرين ، فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى :( كمن آمن بالله ) وبين من آمن بالله ، وهذا هو الأقرب عندي .
وتقرير الكلام أن نقول : إنا قد نقلنا في تفسير قوله تعالى :( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ) أن العباس احتج على فضائل نفسه بأنه عمر المسجد الحرام ، وسقى الحاج ، فأجاب الله عنه بوجهين :
الوجه الأول : ما بين في الآية الأولى أن عمارة المسجد ، إنما توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن ، أما إذا كانت صادرة عن الكافر فلا فائدة فيها ألبتة .
والوجه الثاني من الجواب : كل ما ذكره في هذه الآية ، وهو أن يقال : هب أنا سلمنا أن عمارة المسجد الحرام ، وسقي الحاج يوجب نوعا من أنواع الفضيلة ، إلا أنها بالنسبة إلى الإيمان بالله ، والجهاد قليل جدا ، فكان ذكر هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد خطأ ؛ لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جدا بالشيء الحقير التافه جدا ، وأنه باطل ، فهذا هو الوجه في تخريج هذه الآية ، وبهذا الطريق يحصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها .
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية .
واعلم أن السقاية والعمارة فعل ، وقوله :( من آمن بالله ) إشارة إلى الفاعل ، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل ، والصفة بالذات وإنه محال ، فلا بد من التأويل وهو من وجهين :
الأول : أن نقول : التقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله ؟ ويقويه قراءة عبد الله بن الزبير ( سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ) .
والثاني : أن نقول : التقدير أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله ؟ ونظيره قوله تعالى :( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) [البقرة : 177] إلى قوله :( ولكن البر من آمن بالله ) [البقرة : 177] .
المسألة الثالثة : قال الحسن رحمه الله تعالى : كانت السقاية بنبيذ الزبيب ، وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديدا ، فكسر منه بالماء ثلاثا ، وقال : إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء .
وأما عمارة المسجد الحرام فالمراد تجهيزه ، وتحسين صورة جدرانه ، ولما ذكر تعالى وصف الفريقين قال :( لا يستوون ) ولكن لما كان نفي المساواة بينهما لا يفيد أن الراجح من هو ؟ نبه على الراجح بقوله :( والله لا يهدي القوم الظالمين ) فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم ، فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين ؛ لأن ، وأيضا ظلموا الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه المسجد الحرام ، فإنه تعالى خلقه ليكون موضعا لعبادة الله تعالى ، فجعلوه موضعا لعبادة الأوثان ، فكان هذا ظلما .