( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ) .
ثم قال تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) وفيه قولان :
الأول : لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع ، وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا مكلفين به . قالت المعتزلة : فهذا يدل على أن غير واقع ولا جائز الوقوع ، وقد ذكرنا أن الإشكال لازم عليهم في العلم وفي الدواعي . تكليف ما لا يطاق
الثاني : لا تستطيعون التسوية بينهن في الأقوال والأفعال ؛ لأن التفاوت في الحب يوجب التفاوت في نتائج الحب ؛ لأن الفعل بدون الداعي ، ومع قيام الصارف محال .
ثم قال : ( فلا تميلوا كل الميل ) والمعنى : أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي ؛ لأن ذلك خارج عن وسعكم ، ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل . روى -رحمة الله عليه - الشافعي . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم ، ويقول : "هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك"
ثم قال تعالى : ( فتذروها كالمعلقة ) يعني : تبقى لا أيما ولا ذات بعل ، كما أن الشيء المعلق لا يكون على الأرض ولا على السماء ، وفي قراءة أبي : فتذروها كالمسجونة ، وفي الحديث : جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل " كانت له امرأتان يميل مع إحداهما . " من
وروي أن -رضي الله عنه- بعث إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقالت عمر بن الخطاب : إلى كل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عائشة عمر بمثل هذا ؟ فقالوا : لا ، بعث إلى القرشيات بمثل هذا ، وإلى غيرهن بغيره ، فقالت للرسول : ارفع رأسك وقل لعمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا قي القسمة بماله ونفسه ، فرجع الرسول فأخبره فأتم لهن جميعا .
[ ص: 55 ] ثم قال تعالى : ( وإن تصلحوا ) بالعدل في القسم ( وتتقوا ) الجور ( فإن الله كان غفورا رحيما ) ؛ ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض .
وقيل : المعنى : وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة ، وتتقوا في المستقبل عن مثله غفر الله لكم ذلك ، وهذا الوجه أولى ؛ لأن لما كان خارجا عن الوسع لم يكن فيه حاجة إلى المغفرة . التفاوت في الميل القلبي
ثم قال تعالى : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) .
واعلم أنه تعالى ذكر جواز الصلح إن أرادا ذلك ، فإن فالله سبحانه بين جوازه بهذه الآية أيضا ، ووعد لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطلاق ، أو يكون المعنى أنه يغني كل واحد منهما بزوج خير من زوجه الأول ، ويعيش أهنأ من عيشه الأول . رغبا في المفارقة
ثم قال : ( وكان الله واسعا حكيما ) والمعنى : أنه تعالى لما وعد كل واحد منهما بأنه يغنيه من سعته وصف نفسه بكونه واسعا ، وإنما جاز وصف الله تعالى بذلك ؛ لأنه تعالى واسع الرزق ، واسع الفضل ، واسع الرحمة ، واسع القدرة ، واسع العلم ، فلو ذكر تعالى أنه واسع في كذا لاختص ذلك بذلك المذكور ، ولكنه لما ذكر الواسع وما أضافه إلى شيء معين دل على أنه واسع في جميع الكمالات ، وتحقيقه في العقل أن الموجود إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته ، والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى ، وما سواه ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الله الواجب لذاته ، وإذا كان كذلك كان كل ما سواه من الموجودات فإنما يوجد بإيجاده وتكوينه ، فلزم من هذا كونه واسع العلم والقدرة والحكمة ، والرحمة ، والفضل والجود ، والكرم . وقوله : ( حكيما ) قال : يريد فيما حكم ووعظ وقال ابن عباس الكلبي : يريد فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان .