( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) .
قوله تعالى : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الجملة الشرطية وهو قوله : ( لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ) هي صلة لقوله : ( الذين ) والمعنى : وليخش الذين من صفتهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافا خافوا عليهم ، وأما الذي يخشى عليه فغير منصوص عليه ، وسنذكر وجوه المفسرين فيه .
المسألة الثانية : لا شك أن قوله : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ) يوجب الاحتياط للذرية الضعاف ، وللمفسرين فيه وجوه :
الأول : أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون : إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، فأوص بمالك لفلان وفلان ، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا ، فقيل لهم : كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال ، فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله . وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك ، فلا ترضه لأخيك المسلم . عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " " . لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه
والقول الثاني : قال : سألت حبيب بن أبي ثابت مقسما عن هذه الآية فقال : هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب ، فيقول له من كان عنده : اتق الله وأمسك على ولدك مالك ، مع أن ذلك الإنسان يحب أن يوصى له ، ففي القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين عن الترغيب في الوصية ، وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية ، والأول أولى ؛ لأن قوله : ( لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ) أشبه بالوجه الأول وأقرب إليه .
والقول الثالث : يحتمل أن تكون الآية خطابا لمن قرب أجله ، ويكون المقصود ، ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته ، كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية ، وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث ، كان المراد منها أن يوصي أيضا بالثلث ، بل ينقص إذا خاف على ذريته ، والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك ، وكانوا يقولون : الخمس أفضل من الربع ، والربع أفضل من الثلث ، وخبر الوصية بالثلث سعد يدل عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " " . الثلث والثلث كثير ؛ لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس
[ ص: 162 ] والقول الرابع : أن هذا أمر لأولياء اليتيم ، فكأنه تعالى قال : وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره ، والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله ، وأن يترك نفسه في حفظه ، والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا . قال القاضي : وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود .
المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " : قرئ : ضعفاء ، وضعافى ، وضعافى : نحو سكارى وسكارى . قال الواحدي : قرأ حمزة ( ضعافا خافوا عليهم ) بالإمالة فيهما ثم قال : ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال ، وكان أوله حرفا مستعليا مكسورا نحو ضعاف ، وغلاب ، وخباب ، يحسن فيه الإمالة ، وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة ، فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة ، وأما الإمالة في ( خافوا ) فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت ، ثم قال : ( فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) وهو كالتقرير لما تقدم ، فكأنه قال : فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه ، وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل ، والقول السديد هو العدل والصواب من القول . قال صاحب " الكشاف " : القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ، ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا يا بني ، يا ولدي ، والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا : إذا أردت الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك ، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد ، والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون ، أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالإكرام .