الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما العقل فهل هو من شرائط الوجوب وكذا الإفاقة ، واليقظة ؟ قال عامة مشايخنا : إنها ليست من شرائط الوجوب ، ويجب صوم رمضان على المجنون والمغمى عليه والنائم لكن أصل الوجوب لا وجوب الأداء بناء على أن عندهم الوجوب نوعان : أحدهما أصل الوجوب وهو اشتغال الذمة بالواجب وأنه ثبت بالأسباب لا بالخطاب ، ولا تشترط القدرة لثبوته بل ثبت جبرا من الله تعالى شاء العبد ، أو أبى ، والثاني : وجوب الأداء وهو إسقاط ما في الذمة وتفريغها من الواجب ، وأنه ثبت بالخطاب وتشترط له القدرة على فهم الخطاب وعلى أداء ما تناوله الخطاب ، لأن الخطاب لا يتوجه إلى العاجز عن فهم الخطاب ولا إلى العاجز عن فعل ما تناوله الخطاب ، والمجنون لعدم عقله ، أو لاستتاره ، والمغمى عليه ، والنائم لعجزهما عن استعمال عقلهما عاجزون عن فهم الخطاب وعن أداء ما تناوله الخطاب ، فلا يثبت وجوب الأداء في حقهم ويثبت أصل الوجوب في حقهم ، لأنه لا يعتمد القدرة بل يثبت جبرا .

                                                                                                                                وتقرير هذا الأصل معروف في أصول الفقه ، وفي الخلافيات ، وقال أهل التحقيق من مشايخنا بما وراء النهر : إن الوجوب في الحقيقة نوع واحد وهو وجوب الأداء فكل من كان من أهل الأداء كان من أهل الوجوب ومن لا فلا وهو اختيار أستاذي الشيخ الأجل الزاهد علاء الدين رئيس أهل السنة محمد بن أحمد السمرقندي رضي الله عنه لأن الوجوب المعقول هو وجوب الفعل كوجوب الصوم ، والصلاة وسائر العبادات ، فمن لم يكن من أهل أداء الفعل الواجب وهو القادر على فهم الخطاب ، والقادر على فعل ما يتناوله الخطاب لا يكون من أهل الوجوب ضرورة ، والمجنون ، والمغمى عليه ، والنائم عاجزون عن فعل الخطاب بالصوم وعن أدائه إذ الصوم الشرعي هو الإمساك لله تعالى ولن يكون ذلك بدون النية ، وهؤلاء ليسوا من أهل النية ، فلم يكونوا من أهل الأداء فلم يكونوا من أهل الوجوب ، والذي دعا الأولين إلى القول بالوجوب في حق هؤلاء ما انعقد الإجماع عليه من وجوب القضاء على المغمى عليه ، والنائم بعد الإفاقة ، والانتباه بعد مضي بعض الشهر ، أو كله ، وما قد صح من مذهب أصحابنا رحمهم الله في المجنون إذا أفاق في بعض شهر رمضان أنه يجب عليه قضاء ما مضى من الشهر ، فقالوا : إن وجوب القضاء يستدعي فوات الواجب المؤقت عن وقته مع القدرة عليه وانتفاء الحرج ، فلا بد من الوجوب في الوقت ثم فواته حتى يمكن إيجاب القضاء فاضطرهم ذلك إلى إثبات الوجوب في حال الجنون ، والإغماء ، والنوم ، وقال الآخرون : إن وجوب القضاء لا يستدعي سابقية الوجوب لا محالة ، وإنما يستدعي فوت العبادة عن وقتها ، والقدرة على القضاء من غير حرج ، ولذلك اختلفت طرقهم في المسألة ، وهذا الذي ذكرنا في المجنون إذا أفاق في بعض شهر رمضان أنه يلزمه قضاء ما مضى جواب الاستحسان ، والقياس أن لا يلزمه وهو قول زفر ، والشافعي .

                                                                                                                                وأما المجنون جنونا مستوعبا بأن جن قبل دخول شهر رمضان وأفاق بعد مضيه فلا قضاء عليه عند عامة العلماء ، وعند مالك يقضي ، وجه القياس أن القضاء هو تسليم مثل الواجب ولا وجوب على المجنون لأن الوجوب بالخطاب ولا خطاب عليه لانعدام القدرتين ، ولهذا لم يجب القضاء في الجنون المستوعب شهرا ، وجه قول أصحابنا .

                                                                                                                                أما من قال بالوجوب في حال الجنون يقول : فاته الواجب عن وقته وقدر على قضائه من غير حرج فيلزمه قضاؤه قياسا على النائم ، والمغمى عليه ودليل الوجوب لهم وجود سبب الوجوب وهو الشهر إذ الصوم يضاف إليه مطلقا ، يقال صوم الشهر ، والإضافة دليل السببية ، وهو قادر على القضاء من غير حرج .

                                                                                                                                وفي إيجاب القضاء عند الاستيعاب حرج .

                                                                                                                                وأما من أبى القول بالوجوب في حال الجنون يقول : هذا شخص فاته صوم شهر رمضان وقدر على قضائه من غير حرج فيلزمه قضاؤه قياسا على النائم ، والمغمى عليه ، ومعنى قولنا فاته صوم شهر رمضان أي : لم يصم شهر رمضان ، وقولنا من غير حرج فلأنه لا حرج في قضاء نصف الشهر ، وتأثيرها من وجهين أحدهما : أن الصوم عبادة ، والأصل في العبادات وجوبها على الدوام بشرط الإمكان وانتفاء الحرج لما ذكرنا في [ ص: 89 ] الخلافيات إلا أن الشرع عين شهر رمضان من السنة في حق القادر على الصوم فبقي الوقت المطلق في حق العاجز عنه وقتا له ، والثاني : أنه لما فاته صوم شهر رمضان فقد فاته الثواب المتعلق به فيحتاج إلى استدراكه بالصوم في عدة من أيام أخر ليقوم الصوم فيها مقام الفائت فينجبر الفوات بالقدر الممكن ، فإذا قدر على قضائه من غير حرج أمكن القول بالوجوب عليه فيجب كما في المغمى عليه ، والنائم بخلاف الجنون المستوعب فإن هناك في إيجاب القضاء حرجا لأن الجنون المستوعب قلما يزول بخلاف الإغماء ، والنوم إذا استوعب لأن استيعابه نادر ، والنادر ملحق بالعدم بخلاف الجنون فإن استيعابه ليس بنادر ، ويستوي الجواب في وجوب قضاء ما مضى عند أصحابنا في الجنون العارض ما إذا أفاق في وسط الشهر ، أو في أوله حتى لو جن قبل الشهر ثم أفاق في آخر يوم منه يلزمه قضاء جميع الشهر ، ولو جن في أول يوم من رمضان فلم يفق إلا بعد مضي الشهر يلزمه قضاء كل الشهر إلا قضاء اليوم الذي جن فيه إن كان نوى الصوم في الليل وإن كان لم ينو قضى جميع الشهر ، ولو جن في طرفي الشهر وأفاق في وسطه فعليه قضاء الطرفين .

                                                                                                                                وأما المجنون الأصلي وهو الذي بلغ مجنونا ثم أفاق في بعض الشهر فقد روي عن محمد أنه فرق بينهما فقال : لا يقضي ما مضى من الشهر .

                                                                                                                                وروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه سوى بينهما ، وقال : يقضي ما مضى من الشهر ، وهكذا روى هشام عن أبي يوسف في صبي له عشر سنين جن فلم يزل مجنونا حتى أتى عليه ثلاثون سنة ، أو أكثر ثم صح في آخر يوم من شهر رمضان ، فالقياس أنه لا يجب عليه قضاء ما مضى لكن استحسن أن يقضي ما مضى في هذا الشهر ، وجه قول محمد أن زمان الإفاقة في حيز زمان ابتداء التكليف فأشبه الصغير إذا بلغ في بعض الشهر بخلاف الجنون العارض فإن هناك زمان التكليف سبق الجنون إلا أنه عجز عن الأداء بعارض فأشبه المريض العاجز عن أداء الصوم إذا صح .

                                                                                                                                وجه رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ما ذكرنا من الطريقين في الجنون العارض ولو أفاق المجنون جنونا عارضا في نهار رمضان قبل الزوال فنوى الصوم أجزأه عن رمضان ، والجنون الأصلي على الاختلاف الذي ذكرنا ، ويجوز في الإغماء ، والنوم بلا خلاف بين أصحابنا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية