ويستوي فيه عند عامة العلماء وعامة الصحابة وعن العمد والخطأ والذكر والنسيان رضي الله عنهما ( أنه لا كفارة على الخاطئ ) وقال ابن عباس : ( لا كفارة على الخاطئ والناسي ) والكلام في المسألة بناء وابتداء . الشافعي
أما البناء فما ذكرنا فيما تقدم أن الكفارة إنما تجب [ ص: 202 ] بارتكاب محظور الإحرام والجناية عليه ، ثم زعم أن فعل الخاطئ والناسي لا يوصف بالجناية والحظر ; لأن فعل الخطأ والنسيان مما لا يمكن التحرز عنه فكان عذرا ، وقلنا نحن : إن فعل الخاطئ والناسي جناية وحرام ; لأن فعلهما جائز المؤاخذة عليه عقلا ، وإنما رفعت المؤاخذة عليه شرعا مع بقاء وصف الحظر والحرمة فأمكن القول بوجوب الكفارة . الشافعي
وكذا التحرز عنهما ممكن في الجملة إذ لا يقع الإنسان في الخطأ والسهو إلا لنوع تقصير منه فلم يكن عذرا منه ; ولهذا لم يعذر الناسي في باب الصلاة إلا أنه جعل عذرا في باب الصوم ; لأنه يغلب وجوده فكان في وجوب القضاء حرج ، ولا يغلب في باب الحج ; لأن أحوال الإحرام مذكرة فكان النسيان معها نادرا على أن العذر في هذا الباب لا يمنع وجوب الجزاء كما في كفارة الحلق لمرض أو أذى بالرأس .
وكذا فوات الحج لا يختلف حكمه للعذر وعدم العذر ، وأما الابتداء فاحتج بقوله عز وجل { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } خص المتعمد بإيجاب الجزاء عليه ، فلو شاركه الخاطئ والناسي في الوجوب لم يكن للتخصيص معنى ، ولنا وجوه من الاستدلال بالعمد ، أحدها : أن الكفارات وجبت رافعة للجناية ; ولهذا سماه الله تعالى كفارة بقوله عز وجل { أو كفارة طعام مساكين } وقد وجدت الجناية على الإحرام في الخطأ ألا ترى أن الله عز وجل سمى الكفارة في القتل الخطأ توبة بقوله تعالى في آخر الآية { توبة من الله }
ولا توبة إلا من الجناية ، والحاجة إلى رفع الجناية موجودة ، والكفارة صالحة لرفعها ; لأنها ترفع أعلى الجنايتين وهي العمد وما صلح رافعا لأعلى الذنبين يصلح رافعا لأدناهما بخلاف قتل الآدمي عمدا أنه لا يوجب الكفارة عندنا والخطأ يوجب ; لأن النقص هناك وجب ، ورد بإيجاب الكفارة في الخطأ وذنب الخطأ دون ذنب العمد ، وما يصلح لرفع الأدنى لا يصلح لرفع الأعلى فامتنع الوجوب من طريق الاستدلال ; لانعدام طريقه ، والثاني : أن المحرم بالإحرام أمن الصيد عن التعرض ، والتزم ترك التعرض له فصار الصيد كالأمانة عنده ، وكل ذي أمانة إذا أتلف الأمانة يلزمه الغرم عمدا كان أو خطأ بخلاف قتل النفس عمدا ; لأن النفس محفوظة بصاحبها وليست بأمانة عند القاتل حتى يستوي حكم العمد والخطأ في التعرض لها ، والثالث : أن الله تعالى ذكر التخيير في حال العمد وموضوع التخيير في حال الضرورة ; لأنه في التوسع وذا في حال الضرورة كالتخيير في الحلق لمن به مرض أو به أذى من رأسه بقوله { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ولا ضرورة في حال العمد فعلم أن ذكر التخيير فيه ; لتقدير الحكم به في حال الضرورة لولاه لما ذكر التخيير فكان إيجاب الجزاء في حال العمد إيجابا في حال الخطأ ; ولهذا كان ذكر التخيير الموضوع للتخفيف والتوسع في كفارة اليمين بين الأشياء الثلاثة حالة العمد ذكرا في حالة الخطأ والنوم والجنون دلالة .
وأما تخصيص العامد فقد عرف من أصلنا أنه ليس في ذكر حكمه وبيانه في حال دليل نفيه في حال أخرى فكان تمسكا بالمسكوت فلا يصح ، ويحتمل أن يكون تخصيص العامد لعظم ذنبه تنبيها على الإيجاب على من قصر ذنبه عنه من الخاطئ والناسي من طريق الأولى ; لأن الواجب لما رفع أعلى الذنبين فلأن يرفع الأدنى أولى ، وعلى هذا كانت الآية حجة عليه والله أعلم .