الفصل الثاني عشر :
nindex.php?page=treesubj&link=30969_30968الحلم ، والعفو
وأما الحلم ، والاحتمال ،
nindex.php?page=treesubj&link=30968والعفو مع القدرة ، والصبر على ما يكره ، وبين هذه الألقاب فرق ، فإن الحلم حالة توقر ، وثبات عند الأسباب المحركات . والاحتمال : حبس النفس عند الآلام ، والمؤذيات . ومثلها الصبر ، ومعانيها متقاربة .
وأما العفو فهو ترك المؤاخذة . وهذا كله مما أدب الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199nindex.php?page=treesubj&link=32270_28861خذ العفو وأمر بالعرف . [ الأعراف : 199 ] الآية .
روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية سأل جبريل - عليه السلام - عن تأويلها ، فقال له : حتى أسأل العالم .
ثم ذهب فأتاه ، فقال : يا محمد . إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك .
وقال له :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=17واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور . [ لقمان : 17 ] الآية ، وقال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=35فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ الأحقاف : 35 ] قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=22وليعفوا وليصفحوا [ النور : 22 ] الآية .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=43ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ] .
ولا خفاء بما يؤثر من حلمه ، واحتماله ، وأن كل حليم قد عرفت منه زلة ، وحفظت عنه هفوة ، وهو - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=treesubj&link=30969لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرا ، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما .
[ ص: 177 ] حدثنا
أبو بكر بن واقد القاضي ، وغيره ، حدثنا
أبو عيسى ، حدثنا
عبيد الله ، حدثنا
يحيى بن يحيى ، حدثنا
مالك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب ، عن
عروة ، عن
عائشة رضي الله عنها ، قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989186nindex.php?page=treesubj&link=25865ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ، nindex.php?page=treesubj&link=30969_29398وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى ، فينتقم لله بها .
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
لما كسرت رباعيته ، وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شقا شديدا ، وقالوا : لو دعوت عليهم ! فقال : nindex.php?page=treesubj&link=30984_29398إني لم أبعث لعانا ، ولكني بعثت داعيا ، ورحمة . اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .
وروي عن
عمر - رضي الله عنه - أنه قال في بعض كلامه :
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد دعا نوح على قومه ، فقال : nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] . ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا ، فلقد وطئ ظهرك ، وأدمي وجهك ، وكسرت رباعيتك ، فأبيت أن تقول إلا خيرا ، فقلت : اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون .
قال
القاضي أبو الفضل - وفقه الله - : انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ، ودرجات الإحسان وحسن الخلق ، وكرم النفس ، وغاية الصبر ، والحلم ؛ إذ لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق عليهم ، ورحمهم ، ودعا ، وشفع لهم ، فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب الشفقة ، والرحمة بقوله : لقومي ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم ، فقال : فإنهم لا يعلمون .
ولما قال له الرجل : اعدل ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله لم يزده في جوابه أن يبين له ما جهله . ووعظ نفسه ، وذكرها بما قال له ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989189ويحك ! فمن يعدل إن لم أعدل ! خبت ، وخسرت إن لم أعدل ! ونهى من أراد من أصحابه قتله . ولما
[ ص: 178 ] nindex.php?page=treesubj&link=30968_30969تصدى له غورث بن الحارث ليفتك به ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتبذ تحت شجرة ، وحده قائلا ، والناس قائلون ، في غزاة ، فلم ينتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو قائم ، والسيف صلتا في يده ، فقال : من يمنعك مني ؟ فقال : الله فسقط السيف من يده ، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989190من يمنعك مني ؟ قال : كن خير آخذ ، فتركه ، وعفا عنه . فجاء إلى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس .
ومن عظيم خبره في العفو
nindex.php?page=treesubj&link=30968عفوه عن اليهودية التي سمته في الشاة بعد اعترافها على الصحيح من الرواية .
وأنه
nindex.php?page=treesubj&link=30968_25592لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره ، وقد أعلم به ، وأوحي إليه بشرح أمره ، ولا عتب عليه فضلا عن معاقبته .
وكذلك لم يؤاخذ
عبد الله بن أبي ، وأشباهه من المنافقين بعظيم ما نقل عنهم في جهته قولا ، وفعلا ، بل قال لمن أشار بقتل بعضهم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989191لئلا يتحدث أن محمدا يقتل أصحابه .
وعن
أنس - رضي الله عنه - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989192كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه برد غليظ الحاشية ، فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه ، ثم قال : يا محمد ، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فإنك لا تحمل لي من مالك ، ومال أبيك . فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : المال مال الله ، وأنا عبده . ثم قال : ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي قال : لا . قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة . فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أمر أن يحمل له على بعيره شعير ، وعلى الآخر تمر .
قالت
عائشة - رضي الله عنها - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989193ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله . nindex.php?page=treesubj&link=30961_30969وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن [ ص: 179 ] يجاهد في سبيل الله . nindex.php?page=treesubj&link=30969_30961وما ضرب خادما قط ، ولا امرأة . وجيء إليه برجل ، فقيل : هذا أراد أن يقتلك . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لن تراع ، لن تراع ، ولو أردت ذلك لم تسلط علي .
وجاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه ، فجبذ ثوبه عن منكبه ، وأخذ بمجامع ثيابه ، وأغلظ له ، ثم قال : إنكم يا بني عبد المطلب ، مطل ، فانتهره عمر ، وشدد له في القول ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبتسم .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر ، تأمرني بحسن القضاء ، وتأمره بحسن التقاضي .
ثم قال : لقد بقي من أجله ثلاث ، وأمر عمر يقضيه ماله ، ويزيده عشرين صاعا لما روعه ، فكان سبب إسلامه .
ذلك أنه كان يقول : ما بقي من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في
محمد إلا اثنتين لم أخبرهما :
nindex.php?page=treesubj&link=30969يسبق حلمه جهله ،
nindex.php?page=treesubj&link=30969ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما . فاختبرته بهذا ، فوجدته كما وصف .
والحديث عن حلمه - صلى الله عليه وسلم - ، وصبره ، وعفوه عند القدرة أكثر من أن تأتي عليه ، وحسبك ما ذكرناه مما في الصحيح ، والمصنفات الثابتة إلى ما بلغ متواترا مبلغ اليقين من صبره على مقاساة
قريش ، وأذى الجاهلية ، ومصابرة الشدائد الصعبة معهم إلى أن أظفره الله عليهم ، وحكمه فيهم ، وهم لا يشكون في استئصال شأفتهم ، وإبادة خضرائهم ، فما زاد على أن عفا ، وصفح ، وقال :
ما تقولون إني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال : أقول كما قال أخي يوسف : nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=92لا تثريب عليكم اليوم [ يوسف : 92 ] الآية ، اذهبوا فأنتم الطلقاء . وقال
أنس :
هبط ثمانون رجلا من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذوا ، فأعتقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=24nindex.php?page=treesubj&link=32304_28861وهو الذي كف أيديهم عنكم [ الفتح : 24 ] الآية . وقال لأبي سفيان ، وقد سيق إليه بعد أن جلب إليه الأحزاب ، وقتل عمه ، وأصحابه ، ومثل بهم ، فعفا عنه ، ولاطفه في القول : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت ، وأمي ! ما أحلمك ، وأوصلك ، وأكرمك ! .
nindex.php?page=treesubj&link=30975_30969وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضا - صلى الله عليه وسلم - .
الْفَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ :
nindex.php?page=treesubj&link=30969_30968الْحِلْمُ ، وَالْعَفْوُ
وَأَمَّا الْحِلْمُ ، وَالِاحْتِمَالُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=30968وَالْعَفْوُ مَعَ الْقُدْرَةِ ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَكْرَهُ ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَلْقَابِ فَرْقٌ ، فَإِنَّ الْحِلْمَ حَالَةُ تَوَقُّرٍ ، وَثَبَاتٍ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّكَاتِ . وَالِاحْتِمَالَ : حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ الْآلَامِ ، وَالْمُؤْذِيَاتِ . وَمِثْلُهَا الصَّبْرُ ، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ .
وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ . وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199nindex.php?page=treesubj&link=32270_28861خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ . [ الْأَعْرَافِ : 199 ] الْآيَةَ .
رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ تَأْوِيلِهَا ، فَقَالَ لَهُ : حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ .
ثُمَّ ذَهَبَ فَأَتَاهُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ . إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ .
وَقَالَ لَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=17وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . [ لُقْمَانَ : 17 ] الْآيَةَ ، وَقَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=35فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [ الْأَحْقَافِ : 35 ] قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=22وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [ النُّورِ : 22 ] الْآيَةَ .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=43وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ الشُّورَى : 43 ] .
وَلَا خَفَاءَ بِمَا يُؤْثَرُ مِنْ حِلْمِهِ ، وَاحْتِمَالِهِ ، وَأَنَّ كُلَّ حَلِيمٍ قَدْ عُرِفَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ ، وَحُفِظَتْ عَنْهُ هَفْوَةٌ ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=treesubj&link=30969لَا يَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَذَى إِلَّا صَبْرًا ، وَعَلَى إِسْرَافِ الْجَاهِلِ إِلَّا حِلْمًا .
[ ص: 177 ] حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ وَاقِدٍ الْقَاضِي ، وَغَيْرُهُ ، حَدَّثَنَا
أَبُو عِيسَى ، حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا
مَالِكٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ
عُرْوَةَ ، عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989186nindex.php?page=treesubj&link=25865مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، nindex.php?page=treesubj&link=30969_29398وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ ، وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَقًّا شَدِيدًا ، وَقَالُوا : لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ ! فَقَالَ : nindex.php?page=treesubj&link=30984_29398إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا ، وَرَحْمَةً . اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
وَرُوِيَ عَنْ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ :
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ ، فَقَالَ : nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ نُوحٍ : 26 ] . وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنَا مِثْلَهَا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا ، فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ ، وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ ، فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إِلَّا خَيْرًا ، فَقُلْتَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ - : انْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ ، وَدَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ ، وَكَرَمِ النَّفْسِ ، وَغَايَةِ الصَّبْرِ ، وَالْحِلْمِ ؛ إِذْ لَمْ يَقْتَصِرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ ، ثُمَّ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ ، وَرَحِمَهُمْ ، وَدَعَا ، وَشَفَعَ لَهُمْ ، فَقَالَ : اغْفِرْ أَوِ اهْدِ ، ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ ، وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ : لِقَوْمِي ، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ ، فَقَالَ : فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
وَلَمَّا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ : اعْدِلْ ، فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ لَمْ يَزِدْهُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا جَهِلَهُ . وَوَعَظَ نَفْسَهُ ، وَذَكَّرَهَا بِمَا قَالَ لَهُ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989189وَيْحَكَ ! فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ! خِبْتُ ، وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ! وَنَهَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَتْلَهُ . وَلَمَّا
[ ص: 178 ] nindex.php?page=treesubj&link=30968_30969تَصَدَّى لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ لِيَفْتِكَ بِهِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْتَبِذٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، وَحْدَهُ قَائِلًا ، وَالنَّاسُ قَائِلُونَ ، فِي غَزَاةٍ ، فَلَمْ يَنْتَبِهْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ ، وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ ، فَقَالَ : مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ فَقَالَ : اللَّهُ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989190مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ : كُنْ خَيْرَ آخِذٍ ، فَتَرَكَهُ ، وَعَفَا عَنْهُ . فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ : جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ .
وَمِنْ عَظِيمِ خَبَرِهِ فِي الْعَفْوِ
nindex.php?page=treesubj&link=30968عَفْوُهُ عَنِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ فِي الشَّاةِ بَعْدَ اعْتِرَافِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الرِّوَايَةِ .
وَأَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=30968_25592لَمْ يُؤَاخِذْ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ إِذْ سَحَرَهُ ، وَقَدْ أُعْلِمَ بِهِ ، وَأُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْحِ أَمْرِهِ ، وَلَا عَتَبَ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ مُعَاقَبَتِهِ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يُؤَاخِذْ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ، وَأَشْبَاهَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِعَظِيمِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي جِهَتِهِ قَوْلًا ، وَفِعْلًا ، بَلْ قَالَ لِمَنْ أَشَارَ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989191لِئَلَّا يُتَحَدَّثُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ .
وَعَنْ
أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989192كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَجَبَذَهُ أَعْرَابِيٌّ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرِيَّ هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ ، فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ ، وَمَالِ أَبِيكَ . فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ قَالَ : الْمَالُ مَالُ اللَّهِ ، وَأَنَا عَبْدُهُ . ثُمَّ قَالَ : وَيُقَادُ مِنْكَ يَا أَعْرَابِيُّ مَا فَعَلْتَ بِي قَالَ : لَا . قَالَ : لِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّكَ لَا تُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ . فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ لَهُ عَلَى بَعِيرِهِ شَعِيرٌ ، وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرٌ .
قَالَتْ
عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=989193مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلَمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ مَا لَمْ تَكُنْ حُرْمَةً مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ . nindex.php?page=treesubj&link=30961_30969وَمَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ [ ص: 179 ] يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . nindex.php?page=treesubj&link=30969_30961وَمَا ضَرَبَ خَادِمًا قَطُّ ، وَلَا امْرَأَةً . وَجِيءَ إِلَيْهِ بِرَجُلٍ ، فَقِيلَ : هَذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَكَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَنْ تُرَاعَ ، لَنْ تُرَاعَ ، وَلَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمْ تُسَلَّطْ عَلَيَّ .
وَجَاءَهُ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا عَلَيْهِ ، فَجَبَذَ ثَوْبَهُ عَنْ مَنْكِبِهِ ، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ ، وَأَغْلَظَ لَهُ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمَطْلَبِ ، مُطْلٌ ، فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ ، وَشَدَّدَ لَهُ فِي الْقَوْلِ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْتَسِمُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَنَا وَهُوَ كُنَّا إِلَى غَيْرِ هَذَا أَحْوَجَ مِنْكَ يَا عُمَرُ ، تَأْمُرُنِي بِحُسْنِ الْقَضَاءِ ، وَتَأْمُرُهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي .
ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ ثَلَاثٌ ، وَأَمَرَ عُمَرَ يَقْضِيهِ مَالَهُ ، وَيَزِيدَهُ عِشْرِينَ صَاعًا لِمَا رَوَّعَهُ ، فَكَانَ سَبَبَ إِسْلَامِهِ .
ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَا بَقِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي
مُحَمَّدٍ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=30969يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلُهُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=30969وَلَا تَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ إِلَّا حِلْمًا . فَاخْتَبَرْتُهُ بِهَذَا ، فَوَجَدْتُهُ كَمَا وُصِفَ .
وَالْحَدِيثُ عَنْ حِلْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَصَبْرِهِ ، وَعَفْوِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ ، وَحَسْبُكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا فِي الصَّحِيحِ ، وَالْمُصَنَّفَاتِ الثَّابِتَةِ إِلَى مَا بَلَغَ مُتَوَاتِرًا مَبْلَغَ الْيَقِينِ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مُقَاسَاةِ
قُرَيْشٍ ، وَأَذَى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ الصَّعْبَةِ مَعَهُمْ إِلَى أَنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَحَكَّمَهُ فِيهِمْ ، وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ ، وَإِبَادَةِ خَضْرَائِهِمْ ، فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ عَفَا ، وَصَفَحَ ، وَقَالَ :
مَا تَقُولُونَ إِنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ، فَقَالَ : أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ : nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=92لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [ يُوسُفَ : 92 ] الْآيَةَ ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ . وَقَالَ
أَنَسٌ :
هَبَطَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ التَّنْعِيمِ صَلَاةَ الصُّبْحِ لِيَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأُخِذُوا ، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=24nindex.php?page=treesubj&link=32304_28861وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [ الْفَتْحِ : 24 ] الْآيَةَ . وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ ، وَقَدْ سِيقَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ جَلَبَ إِلَيْهِ الْأَحْزَابَ ، وَقَتَلَ عَمَّهُ ، وَأَصْحَابَهُ ، وَمَثَّلَ بِهِمْ ، فَعَفَا عَنْهُ ، وَلَاطَفَهُ فِي الْقَوْلِ : وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ : بِأَبِي أَنْتَ ، وَأُمِّي ! مَا أَحْلَمَكَ ، وَأَوْصَلَكَ ، وَأَكْرَمَكَ ! .
nindex.php?page=treesubj&link=30975_30969وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْعَدَ النَّاسِ غَضَبًا وَأَسْرَعَهُمْ رِضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .