وافترقت إلى اثنتين وعشرين فرقة ، وأصول ذلك كله ثلاث فرق غلاة وإمامية وزيدية ، أما الغلاة فافترقت ثمانية عشر فرقة ، يكفر بعضها بعضا ، ( أحدها ) السبئية وهم أتباع عبد الله بن سبأ الذي قال لأمير المؤمنين - رضي الله عنه : أنت الإله حقا ، فأحرق من أصحاب هذه المقالة من قدر عليه منهم ، فخد لهم أخاديد ، وأحرقهم بالنار ، وقال : علي بن أبي طالب
إني إذا سمعت قولا منكرا أججت نارا ودعوت قنبرا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه : وابن سبأ هذا أول من ابتدع الرفض ، قال : وكان منافقا زنديقا ، أراد فساد دين الإسلام كما فعل بولس صاحب الرسائل التي بأيدي النصارى ، حيث ابتدع لهم بدعا أفسد بها دينهم ، وكان يهوديا فأظهر النصرانية نفاقا لقصد إفساد ملتهم ، وكذلك كان ابن سبأ يهوديا ، فقصد ذلك وسعى في الفتنة فلم يتمكن ، لكن حصل [ ص: 81 ] بين المؤمنين تحريش وفتنة ، فقتل فيها - رضي الله عنه ، وتبع عثمان بن عفان ابن سبأ جماعات على بدعته وضلالته ، وقال هؤلاء : إن عليا - رضي الله عنه - لم يمت ، وإنما الذي قتله عبد الرحمن بن ملجم شيطان ، وأما علي ففي السحاب ، والرعد صوته والبرق سوطه ، وإنه ينزل إلى الأرض ويملؤها عدلا ، ويقولون عند الرعد : عليك السلام يا أمير المؤمنين .
( الثانية ) : الكاملية وهم أتباع أبي كامل ، قالوا بكفر الصحابة - رضي الله عنهم - بترك بيعة علي ، وبكفر علي - رضي الله عنه - بترك طلب حقه ، ويعتقدون التناسخ ، وأن الإمامة نور يتناسخ ، وقد يصير في شخص نبوة .
( الثالثة ) البيانية أتباع بيان بن سمعان التميمي ، قالوا : الله - تعالى - على صورة الإنسان ، ويهلك كله إلا وجهه ، وروح الله حل في علي ، ثم في ابنه ، ثم في محمد ابن الحنفية ابنه أبي هاشم ، ثم في بيان .
( الرابعة ) : المغيرية وهم أتباع المغيرة بن سعيد العجلي ، قالوا : الله - تعالى - جسم على صورة إنسان من نور ، وقلبه منبع الحكمة ، ولما أراد الخلق ، تكلم بالاسم الأعظم ، فطار فوقع تاج على رأسه ، ثم كتب على كفه أعمال العباد ، فغضب من المعاصي فعرق ، فحصل منه بحران : أحدهما ملح مظلم ، والآخر حلو نير ، ثم اطلع في البحر النير ، فأبصر ظله فانتزعه ، فجعل منه الشمس والقمر وأفنى الباقي ، ثم خلق الخلق من البحرين ، فالكفر من المظلم ، والإيمان من النير ، ثم أرسلمحمدا - صلى الله عليه وسلم - والناس في ضلال ، وعرض الأمانة وهي منع الإمامة على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها وحملها الإنسان ، قالوا : وهو أبو بكر حملها بأمر عمر ، بشرط أن يجعل الخلافة بعده له ، قالوا : والإمام المنتظر زكريا بن محمد بن علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم - وهو حي في جبل حاجر .
( الخامسة ) : الجناحية وهم المنسوبون إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ، قالوا : الأرواح تتناسخ ، فكان روح الله في آدم ، ثم في شيث ، ثم في الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ، ثم إلى [ ص: 82 ] عبد الله ، قالوا : وهو حي بجبل أصبهان ، وأنكروا القيامة واستحلوا المحرمات .
( السادسة ) : المنصورية وهم أتباع أبي منصور العجلي ، قالوا : الإمامة صارت لمحمد بن علي بن الحسين ، وعرج إلى السماء ، ومسح الله رأسه بيده ، وقال : يا بني ، اذهب وبلغ عني ، قالوا : والرسل لا تنقطع ، والجنة رجل أمرنا بموالاته وهو الإمام ، والنار رجل أمرنا بمعاداته ، وكذا الفرائض والمحرمات .
( السابعة ) : الخطابية وهم أتباع أبي الخطاب الأسدي ، قال : الأئمة أنبياء ، وادعى النبوة لنفسه ، وقال : الحسنان - رضي الله عنهما - ابنان لله ، وجعفر إله ، لكن أبو الخطاب أفضل منه ومن علي ، ويستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم ، قالوا : والجنة نعيم الدنيا والنار آلامها ، واستباحوا المحرمات وتركوا الفرائض ، قالوا : ويمكن أن يوحى إلى كل مؤمن ، ومنهم من هو خير من جبريل وميكائيل ، وهم لا يموتون بل يرفعون إلى الملكوت .
( الثامنة ) : الذمية الذين ذموا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : لأن عليا إله ، بعثه ليدعو له فدعا إلى نفسه ، وقد قيل عند هؤلاء بآلهيتهما ، ولهم في التقديم خلاف ، وقيل عندهم هما وفاطمة والحسنان آلهة ، وهم يقولون فاطم ، ولا يقولون فاطمة تحاشيا عن التأنيث .
( التاسعة ) : الغرابية وهم الذين قالوا محمد أشبه بعلي من الغراب بالغراب ، فغلط جبرائيل من علي إلى محمد بالرسالة .
( العاشرة ) : الهشامية وهم أتباع ، قالوا : إن الله - جل شأنه - طويل عريض ، عميق متساو كالسبيكة البيضاء ، يتلألأ من كل جانب ، وله لون وطعم ورائحة ، ويقوم ويقعد ، ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه إليه ، وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه ، مماس للعرش بلا تفاوت ، وإرادته هي حركة لا عينه ولا غيره ، وإنما يعلم الأشياء بعد كونها بعلم لا قديم ولا حادث ، وكلامه صفة لا مخلوق ولا قديم ، والأعراض لا تدل على الباري ، والأئمة دون الأنبياء . هشام بن الحكم
( الحادية عشر ) : الزرارية وهم أتباع زرارة بن أعين ، قالوا : صفات الله حادثة ، ولا حياة قبل الصفات ، ولهم أقوال خبيثة جدا .
[ ص: 83 ] ( الثانية عشرة ) : اليونسية وهم أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي ، قال الصلاح الصفدي في الوافي بالوفيات : كان يونس على مذهب القطعية في الإمامة ، ثم إنه أفرط في التشبيه ، فقال : إن الله - تعالى - يحمله حملة عرشه ، وهو أقوى منهم كما أن الطائر المعروف بالكركي تحمله رجلاه ، وهو أقوى من رجليه . واستدل بقوله - تعالى : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) ، وهذا الاستدلال خطأ منه ، فإن الآية مصرحة بأن العرش هو المحمول .
( الثالثة عشرة ) : النعمانية وهم أتباع ، قال : إن الله - تعالى - نور غير جسماني على صورة إنسان ، وإنما يعلم الأشياء بعد حدوثها . محمد بن النعمان
( الرابعة عشرة ) : الرزامية ، قالوا : الإمامة ، ثم لابنه لمحمد بن الحنفية عبد الله ، ثم لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، ثم لأولاده إلى المنصور ، ثم حل الإله في أبي مسلم ، وأنه لم يقتل ، واستحلوا المحارم .
( الخامسة عشرة ) : المفوضة ، قالوا : الله - تعالى - فوض خلق العالم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم .
( السادسة عشرة ) : البدائية ، جوزوا البداء على الله .
( السابعة عشرة ) : النصيرية ، قالوا : إن الله - تعالى - حل في علي - رضي الله عنه .
( الثامنة عشرة ) : الإسماعيلية ويلقبون بالباطنية ; لقولهم بباطن الكتاب ، وأصل دعوتهم مبنية على إبطال الشرائع وانتقاص الدين ، فإن قوما من المجوس راموا عند ظهور الفتن ، واختلاف الكلمة ، وتباين الدول ، كسر شوكة الإسلام ، وانتقاض عرى الدين ، ولم يمكنهم التصريح بذلك ، ولا إعلان ما قصدوه من الإفك والمهالك ، فأخذوا في تأويل الشريعة على وجه يعود إلى قواعد أسلافهم ، ورأسهم في ذلك ( حمدان قرمط ) ، ومنهم بل صاحب إظهار دعوتهم ( أبو سعيد الجنابي ) ، فظهر على البحرين ، واجتمع عليه جماعة من الأعراب والقرامطة ، فقوي أمره ، وقتل من حوله من أهل تلك القرى ، ثم قتل أبو سعيد سنة إحدى وثلاثمائة ، قتله خادم له في الحمام ، وقام مقامه ولده ، وكان قد استولى على هجر أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام القرمطي القطيف والإحساء وسائر بلاد البحرين ، فلما كان عام سبع عشرة وثلاثمائة وافى حجاج المسلمين أبو طاهر القرمطي بمكة [ ص: 84 ] يوم التروية فنهب أموال الحاج ، وقتلوهم حتى في المسجد الحرام ، وفي البيت الحرام ، وقلع الحجر الأسود ، وأنفذه إلى هجر ، وطرح القتلى في زمزم ، وقلع باب الكعبة .
والقرمط بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم وبعدها طاء مهملة ، وكان أبو سعيد المذكور قصيرا مجتمع الخلق ، أسمر كريه المنظر ، فلذلك قيل له قرمطي ، والجنابي بفتح الجيم وتشديد النون وبعد الألف موحدة نسبة إلى جنابة ، وهي بلدة من أعمال فارس ، متصلة بالبحرين عند سيراف ، والقرامطة منها ، فنسبوا إليها ، ولهم في دعوتهم مراتب ( الزرق ) ، وهو التفرس في حال المدعو ، هل هو قابل أم لا ؟ ولذلك منعوا إلقاء البذر في السبخة ، والتكلم في بيت فيه سراج أي فقيه ، ثم ( التأنيس ) باستمالة كل واحد بما يميل إليه من زهد وخلاعة ، ثم ( التشكيك ) في أركان الشريعة بمقطعات السور ، وقضاء صوم الحائض دون صلاتها ، والغسل من المني دون البول ; لتتعلق القلوب بمراجعتهم فيها ، ثم ( الربط ) وهو أخذ الميثاق منه بحسب اعتقاده أن لا يفشي عنهم شيئا ، وحوالته على الإمام في كل ما أشكل عليه ، ثم ( التدليس ) وهو دعوى موافقة أكابر الدين لهم حتى يزداد ميلهم ، ثم ( التأسيس ) وهو تمهيد مقدمات يقبلها المدعو ، ثم ( الخلع ) وهو الطمأنينة إلى إسقاط وجوب الأفعال البدنية ، ثم ( السلخ ) عن الاعتقادات ، وحينئذ يأخذون في الإباحة واستعجال اللذات وتأويل الشريعة .
قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية - روح الله روحه : ذكر الكاشفون لأسرار القرامطة ، والهاتكون لأستارهم كالقاضي أبي بكر بن الطيب ، ، وطوائف كثيرة ، ما وجدنا مصداقه في كتب والقاضي أبي يعلى القرامطة ، أنهم وضعوا لأنفسهم اصطلاحات ، روجوها على المسلمين ، ومقصودهم بها مقصود الفلاسفة الصابئين والمجوس الثنوية ، كقولهم : السابق والتالي ، يعنون به العقل والنفس ، ويقولون هو اللوح والقلم ، قال : وأصل دينهم مأخوذ من دين المجوس والصابئين ، ومن مذهبهم أن الله - تعالى - لا موجود ولا معدوم ، وربما خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة ، وقد دخل كثير من هذه القرمطة في كلام كثير من المتصوفة [ ص: 85 ] كما دخل في كثير من المتكلمة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وكتاب رسائل إخوان الصفا أصل مذهب القرامطة الفلاسفة ، فربما نسبوا هذا الكتاب بالافتراء إلى ; ليجعلوه ميراثا عن أهل البيت . قال : وهذا من أقبح الكذب وأوضحه ، فإنه لا نزاع بين العقلاء أن رسائل إخوان الصفا إنما صنفت بعد المائة الثالثة في دولة جعفر الصادق بني بويه ، قريبا من بناء القاهرة المعزية . ودولة العبيدية الحاكمية المنتسبين لأهل البيت الملقبين بالفاطمية من هذا النمط ، فإن ظاهر مذهبهم الرفض ، وباطنه الكفر المحض ، ومن فرقهم الدروز والتيامنة والحمزاوية وأضرابهم ، وهؤلاء من أكفر الناس ، وبالله التوفيق .
( وأما الزيدية ) : فهم ينتسبون للسيد الشريف - رضوان الله عليهما ، وكان زيد بن علي زين العابدين بن الحسين شهيد كربلا ، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب زيد إماما عالما شجاعا مقداما ، وكان قد بايعه جموع من الشيعة ، ثم قالوا له : تبرأ من الشيخين - يعنون أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما ، فقال : معاذ الله ، وزيرا جدي ، فتركوه ورفضوه ، وأرفضوا عنه ، فسموا الرافضة ، والنسبة رافضي ، ثم انقسموا ثلاث فرق :
( الأولى ) : الجارودية أصحاب أبي الجارود ، قالوا بالنص على علي - رضي الله عنه ، والصحابة كفروا بمخالفته ، والخلافة بعد الحسن والحسين شورى في أولادهما ، فمن خرج منهم بالسيف وهو عالم شجاع فهو إمام ، واختلفوا في المنتظر ، أهو محمد بن عبد الله ولم يقتل ، أو ، أو محمد بن القاسم يحيى بن عمر صاحب الكوفة ؟
( الثانية ) : السليمانية شيعة سليمان بن جرير ، قالوا : الإمامة شورى ، وإنما تنعقد برجلين من خيار المسلمين ، وأبو بكر وعمر إمامان وإن أخطأت الأمة في البيعة لهما ، وكفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة .
( الثالثة ) : البترية أصحاب بتر التوصي ، قالوا بنحو قول من قبلهم ، إلا أنهم توقفوا في كفر عثمان - رضي الله عنه .
( وأما الإمامية ) ، فقالوا باتباع الاثني عشر إماما ، وهم : علي ، والحسن والحسين ، ، وزين العابدين علي بن الحسين ، والباقر محمد بن علي زين العابدين وجعفر [ ص: 86 ] الصادق بن محمد الباقر ، وموسى الكاظم بن جعفر الصادق ، وعلي الرضا بن موسى الكاظم ، ومحمد الجواد بن علي الرضا ، وعلي الهادي بن محمد الجواد ، وحسن العسكري بن علي الهادي ، ومحمد بن حسن الحجة ، فالإمامية هم القائلون بزعمهم بقول هؤلاء الأئمة الأبرار - رضوان الله عليهم وسلامه ما تعاقب الليل والنهار ، فقالت الإمامية بالنص الجلي على إمامة أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وكفروا الصحابة بمخالفته ، وساقوا الإمامة إلى ، ثم اختلفوا في المنصوص عليه بعده ، وتشعب متأخرو جعفر الصادق الإمامية إلى معتزلة ومشبهة ومفضلة ، والله - تعالى - أعلم .