( تنبيه ( قد استشكل جمع اعملوا ما شئتم " ، فإن ظاهره أنه للإباحة ، وهو خلاف عقد الشرع ، وأجيب بأنه إخبار عن الماضي ، أي كل عمل كان لكم فهو مغفور ، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ، ولقال : فسأغفره لكم ، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة قوله : " حاطب ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب بذلك عمر - رضي الله عنه - منكرا عليه ما قاله في أمر حاطب ، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين فدل على أن المراد ما سيأتي ، وأورده بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ، عمر - رضي الله عنه - قال لحاطب : قاتلك الله ، ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم ؟ دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك يا عمر ، إن الله - عز وجل - اطلع على أصحاب بدر يوم بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ " فاغرورقت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم حين سمعه يقول في أهل بدر ما قال ، وأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) [ ص: 365 ] - إلى قوله - ( والله بما تعملون بصير ) . وقيل : إن صيغة الأمر في قوله اعملوا للتشريف والتكريم ، فالمراد عدم المؤاخذة بما يصدر عنهم ، وأنهم خصوا بذلك ، لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السالفة ، وتأهلوا لأن يغفر لهم الذنوب اللاحقة ، أي كل ما عملتموه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور ، وقيل : إن المراد أن ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة ، وقيل : هي شهادة بعدم وقوع الذنوب منهم ، وفيه نظر ظاهر لما ثبت في قصة فإن أمير المؤمنين حين شرب الخمر في خلافة أمير المؤمنين قدامة بن مظعون - رضي الله عنه - متأولا ، فحده عمر بن الخطاب عمر ثم هاجره بسبب ذلك ، فرأى عمر في المنام من يأمره بمصالحته ، وكان قدامة بدريا . والذي يفهم من سياق القصة الاحتمال الثاني ، واتفق العلماء على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة ، لا فيما يتعلق بأحكام الدنيا من إقامة الحدود ونحوها ، والله أعلم .
على أنه زعم أناس أن قوله تعالى : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله ) الآية وفيها ( فأعقبهم نفاقا ) الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب ، أو ابن أبي حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن عوف الأنصاري الأوسي ، وقد ذكروه من البدريين ، وقد عده الحافظ ابن الجوزي في منتخب المنتخب من أهل بدر ، ثم عده في الكتاب المذكور من جملة المنافقين ، ثم قال : قال - رضي الله عنهما - : كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ، ومن النساء مائة وسبعين . وقد كان فيهم من شهد ابن عباس بدرا فتغيرت حاله كثعلبة ، ومعتب بن قشير نعوذ بالله من الخذلان . انتهى . وقال : إن ابن الكلبي ثعلبة البدري قتل بأحد ، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة ثعلبة بن حاطب ، أو ابن أبي حاطب الأنصاري - ذكره فيمن بنى ابن إسحاق مسجد الضرار - قال الحافظ ابن حجر : وفي كون صاحب القصة - إن صح الخبر ، ولا أظنه يصح - هو البدري المذكور قبله نظر ، وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول إن البدري استشهد ابن الكلبي بأحد ، ويقوي ذلك أيضا أن ابن مردويه روى في تفسيره من طريق عطية عن - رضي الله عنهما - في الآية المذكورة يعني ( ابن عباس ومنهم من عاهد الله ) قال : نزل ذلك في رجل يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار أتى مجلسا [ ص: 366 ] فأشهدهم فقال : ( لئن آتانا من فضله ) - الآية فذكر القصة مطولة ، فقال : إنه ثعلبة بن أبي حاطب ، والبدري اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب ، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : أحد شهد بدرا والحديبية . وحكى عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال : لا يدخل النار ، فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله تعالى نفاقا في قلبه وينزل فيه ما نزل ؟ فالظاهر أنه غيره ، والله تعالى أعلم . اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم