الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( وأما المقام الثاني ) : وهو انتفاء اللازم وثبوته ، فالناس فيه هاهنا ثلاث طرق . أحدهما : التزام ذلك والقول بالوجوب والتحريم العقليين شاهدا وغائبا . وهذا قول المعتزلة ، هؤلاء يقولون : يترتب الوجوب شاهدا ويترتب المدح والذم عليه . وأما الصفات فلهم فيها اختلاف وتفصيل ، فمن أثبته منهم يقولون : إن العذاب الثابت بعد الإيجاب الشرعي نوع آخر غير العذاب الثابت على الإيجاب العقلي ، وبذلك يجيبون عن النصوص النافية للعذاب قبل البعثة . وأما الإيجاب والتحريم العقليان غائبا فهم مصرحون بهما ويفسرون ذلك باللزوم الذي أوجبته حكمته ، وأنه يستحيل عليه خلافه ، كما يستحيل عليه الحاجة ، والنوم ، والتعب ، واللغوب ، فهذا معنى الوجوب والامتناع في حق الله - تعالى - عندهم ، فهو وجوب اقتضته ذاته وحكمته ، وامتناع مستحيل عليه الاتصاف به لمنافاته كماله وغناه ، قالوا : وهذا في الأفعال نظير ما يقول أهل السنة في الصفات أنه يجب له كذا ويمتنع عليه كذا ، فكما أن ذاك وجوب وامتناع ذاتي يستحيل عليه خلافه ، فهكذا ما تقتضيه حكمته وتأباه يستحيل عليه الإخلال به ، وإن كان مقدورا له ، لكنه لا يخل به لكمال حكمته وعلمه وغناه . ( الفرقة الثانية ) منعت ذلك جملة وأحالت القول به وجوزت على الرب - تعالى - كل شيء ممكن ، وردت الإحالة والامتناع في أفعاله - تعالى - إلى غير الممكن من المحالات كالجمع بين النقيضين وبابه ، فقابلوا المعتزلة أشد مقابلة واقتسما طرفي الإفراط والتفريط ، ورد هؤلاء الوجوب ، والتحريم الذي جاءت به النصوص إلى مجرد صدق الخبر ، فما أخبر أنه يكون فهو واجب لتصديق [ ص: 288 ] خبره ، وما أخبر أنه لا يكون فهو ممتنع لتصديق خبره ، والتحريم عندهم راجع إلى مطابقة العلم لمعلومه ، والمخبر لخبره ، وقد يفسرون التحريم بالامتناع عقلا كتحريم الظلم على نفسه ، فإنهم يفسرونه بالمستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين ، وليس عندهم في المقدور شيء هو ظلم يتنزه الله عنه مع قدرته عليه وحكمته وعدله ، فهذا قول الأشعرية ومن وافقهم .

( الفرقة الثالثة ) هم الوسط بين هاتين الفرقتين ، فإن الفرقة الأولى أوجبت على الله شريعة بعقولها ، حرمت عليه وأوجبت ما لم يحرم على نفسه ولم يوجبه على نفسه ، والفرقة الثانية جوزت عليه ما يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته حكمته وكماله ، والفرقة الوسط أثبتت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب ، والتحريم الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته الذي لا يليق به ، نسبته إلى ضده ; لأنه موجب كماله وحكمته وعدله ، ولم تدخله تحت شريعة وضعتها بعقولها ، كما فعلت الفرقة الأولى ولم تجوز عليه ما نزه نفسه عنه كما فعلت الفرقة الثانية ، قالت الفرقة الوسط : قد أخبر الله - تعالى - أنه حرم الظلم على نفسه ، كما قال على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " وقال : ولا يظلم ربك أحدا وقال : وما ربك بظلام للعبيد وقال : ولا تظلمون فتيلا فأخبر بتحريمه على نفسه ، ونفى عن نفسه فعله وإرادته ، وللناس في تفسير هذا الظلم الذي حرمه على نفسه تعالى وتنزه عن فعله وإرادته ثلاثة أقوال ، بحسب أصولهم وقواعدهم . أحدها : أنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض ، فشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده ، فضربوا له من قبل أنفسهم الأمثال فصاروا بذلك مشبهة ممثلة في الأفعال ، وامتنعوا من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ، ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في أفعاله بخلقه كما أن الجهمية المعطلة امتنعت من إثبات المثل الأعلى الذي أثبته لنفسه ثم ضربوا له الأمثال ومثلوه في صفاته بالجمادات الناقصة بل بالمعدومات ، وأهل السنة نزهوه عن هذا وهذا وأثبتوا ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ، ونزهوه فيها عن الشبيه ، والمثال ، فأثبتوا له المثل الأعلى ولم يضربوا له الأمثال ، فكانوا أسعد الناس بمعرفته وأحقهم بولايته ومحبته ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

ثم التزم أصحاب [ ص: 289 ] هذا التفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قبل لهم به ، فقالوا : إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع مقدوره - تعالى - من وجوه الإعانة ؛ فقد ظلمه ، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالا كما زعموا أنه لا يقدر أن يضل مهتديا ، وقالوا : إنه إذا أمر اثنين بأمر واحد ، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور ؛ كان ظالما ، وإنه إذا اشترك اثنان في ذنب يوجب العقاب فعاقب أحدهما وعفا عن الآخر ؛ كان ظالما ، إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة التي جعلوا لأجلها ترك تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلما .

فعارضهم أصحاب التفسير الثاني وقالوا : الظلم المنزه عنه من الأمور الممتنعة لذاتها ، فلا يجوز أن يكون مقدورا له - تعالى ، ولا أنه تركه بمشيئته واختياره ، وإنما هو من باب الجمع بين الضدين وجعل الجسم الواحد في مكانين وقلب القديم محدثا ، والمحدث قديما ، ونحو ذلك ، وإلا فكل ما يقدره الذهن وكان وجوده ممكنا ، والرب قادر عليه ، فليس بظلم سواء فعله أو لم يفعله ، وتلقى هذا القول عنهم طوائف من أهل العلم وفسروا الحديث به ، وأسندوا ذلك وقووه بآيات وآثار زعموا أنها تدل عليه كقوله تعالى : إن تعذبهم فإنهم عبادك يعني لم تتصرف في غير ملكك ، بل إنما عذبت من تملك ، وعلى هذا فجوزوا تعذيب كل عبد له ولو كان محسنا ، ولم يروا ذلك ظلما ، وبقوله تعالى : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم " وبما روي عن إياس بن معاوية ، قال : ما ناظرت بعقلي كله أحدا إلا القدرية ، قلت لهم : ما الظلم ؟ قالوا : أن تأخذ ما ليس لك ، وأن تتصرف فيما ليس لك . قلت : فلله كل شيء ، والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازم باطلة ، كقولهم : إن الله - تعالى - يجوز عليه أن يعذب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه وأهل طاعته ، ويخلدهم في العذاب الأليم ، ويكرم أعداءه من الكفار ، والمشركين ، والشياطين ، ويخصهم بجنته وكرامته ، وكلاهما عدل وجائز عليه ، وأنه يعلم أنه لا يفعل ذلك بمجرد خبره ، فصار ممتنعا ; لإخباره أنه لا يفعله لا لمنافاة حكمته ، ولا فرق بين الأمرين بالنسبة إليه ، ولكن أراد هذا وأخبر به وأراد الآخر وأخبر به ، فوجب هذا لإرادته وخبره ، وامتنع ضده لعدم إرادته وإخباره بأنه لا يكون .

والتزموا أيضا أنه يجوز [ ص: 290 ] أن يعذب الأطفال الذين لا ذنب لهم أصلا ، ويخلدهم في الجحيم ، وربما قالوا بوقوع ذلك . فأنكر على الطائفتين معا أصحاب التفسير الثالث ، وقالوا : الصواب الذي دلت عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه ، وتنزه عنه فعلا وإرادة ، هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل عليه سيئات غيره ، ولا يعذب بما لا تكتسب يداه ، ولم يكن سعى فيه ، ولا ينقص من حسناته ، فلا يجازى بها ، أو ببعضها إذا قارنها ، أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها ، أو اقتصاص المظلومين منها .

وهذا الظلم الذي نفى الله - تعالى - خوفه عن العبد بقوله : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما قال السلف والمفسرون : لا يخاف أن يحمل عليه سيئات غيره ، ولا ينقص من حسناته ، فهذا هو المعقول من الظلم ومن عدم خوفه ، وأما الجمع بين النقيضين ، وقلب القديم محدثا ، والمحدث قديما ، فمما يتنزه كلام آحاد العقلاء عن تسميته ظلما ، وعن نفي خوفه عن العبد فكيف بكلام رب العالمين ؟ ! .

قالوا : وأما استدلالكم بتلك النصوص الدالة على أنه سبحانه إن عذبهم فإنهم عباده ، وأنه غير ظالم ، وأنه لا يسأل عما يفعل ، وأن قضاءه فيهم عدل ، وبمناظرة إياس للقدرية فهذه النصوص وأمثالها كلها حق ، يجب القول بموجبها ولا تحرف معانيها ، والكل من عند الله ، ولكن أي دليل فيها يدل على أنه يجوز عليه - تعالى - أن يعذب أهل طاعته ، وينعم أهل معصيته ، ويعذب بغير جرم ، ويحرم المحسن جزاء عمله ، ونحو ذلك ، بل كلها متفقة متطابقة دالة على كمال القدرة ، وكمال العدل ، والحكمة ، فالنصوص التي ذكرناها تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه ، ووضعه العقوبة ، والثواب مواضعهما ، وأنه لم يعدل بهما عن مسببها ، والنصوص التي ذكرتموها تقتضي كمال قدرته وانفراده بالربوبية والحكم ، وأنه ليس فوقه آمر ولا ناه يتعقب أفعاله بسؤال ، وأنه لو عذب أهل سماواته وأرضه ، لكان ذلك تعذيبا لحقه عليهم ، وكانوا إذ ذاك مستحقين للعذاب ; لأن أعمالهم لا تفي بنجاتهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " لن ينجي أحدا منكم عمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " فرحمته لهم ليست في مقابلة أعمالهم ، ولا هي ثمنا لها ، فإنها خير منها ، كما قال الحديث نفسه " ولو رحمهم لكانت [ ص: 291 ] رحمته لهم خيرا من أعمالهم " . فجمع بين الأمرين في الحديث ، إنه لو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم ، ولم يكن ظالما ، وأنه لو رحمهم لكان ذلك مجرد فضله وكرمه ، لا بأعمالهم إذ رحمته خير لهم من أعمالهم ، فطاعات العبد كلها لا تكون في مقابلة نعم الله عليهم ، ولا مساوية لها ، بل ولا للقليل منها ، فكيف يستحقون بها على الله النجاة ، وطاعة المطيع لا نسبة لها إلى نعمة من نعم الله عليه ، فتبقى سائر النعم تتقاضاه شكرا ، والعبد لا يقوم بمقدوره الذي يجب لله عليه ، فجميع عباده تحت عفوه ورحمته وفضله ، فما نجا منهم أحد إلا بعفوه ومغفرته ، ولا فاز بالجنة إلا بفضله ورحمته ، وإذا كانت هذه حال العباد ، فلو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، لا من حيث كونه قادرا عليهم ، وهم ملك له ، بل لاستحقاقهم ، ولو رحمهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم ، ويأتي لهذا مزيد تحرير ، والله أعلم :

التالي السابق


الخدمات العلمية