فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة على أن رحمه الله : أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ، قال تعالى خبرا عن إخوة الإيمان إقرار بالقلب يوسف : وما أنت بمؤمن لنا [ ص: 471 ] [ يوسف : 17 ] أي بمصدق لنا ، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك . ثم هذا المعنى اللغوي ، وهو التصديق بالقلب ، هو الواجب على العبد حقا لله ، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله ، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى ، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا . هذا على أحد القولين ، كما تقدم ، ولأنه ضد الكفر ، وهو التكذيب والجحود ، وهما يكونان بالقلب ، فكذا ما يضادهما . وقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] يدل على أن ، لا اللسان ، ولأنه لو كان مركبا من قول وعمل ، لزال كله بزوال جزئه ، ولأن العمل قد عطف على الإيمان ، والعطف يقتضي المغايرة ، قال تعالى : القلب هو موضع الإيمان آمنوا وعملوا الصالحات ، في مواضع من القرآن .
وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق - بمنع الترادف بين التصديق والإيمان ، وهب أن الأمر يصح في موضع ، فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقا ؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان . ومما يدل على عدم الترادف : أنه يقال للمخبر إذا صدق : صدقه ، ولا يقال : آمنه ، ولا آمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال تعالى : فآمن له لوط [ العنكبوت : 26 ] .
[ ص: 472 ] فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه [ يونس : 83 ] . وقال تعالى : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين [ التوبة : 61 ] ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام ، فالأول يقال للمخبر به ، والثاني للمخبر . ولا يرد كونه يجوز أن يقال : ما أنت بمصدق لنا ، لأن دخول اللام لتقوية العامل ، كما إذا تقدم المعمول ، أو كان العامل اسم فاعل ، أو مصدرا ، على ما عرف في موضعه .
فالحاصل أنه لا يقال قط : قد آمنته ، ولا صدقت له ، إنما يقال . آمنت له ، كما يقال : أقررت له . فكان تفسيره بأقررت - أقرب من تفسيره بصدقت ، مع الفرق بينهما ، لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى ، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب ، يقال له في اللغة : صدقت ، كما يقال له : كذبت . فمن قال : السماء فوقنا ، قيل له : صدقت .
وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب ، فيقال لمن قال : طلعت الشمس - : صدقناه ، ولا يقال : آمنا له ، فإن فيه أصل معنى الأمن ، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب ، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر . ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له - إلا في هذا النوع . ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق ، وإنما يقابل بالكفر ، والكفر لا يختص بالتكذيب ، بل لو قال : أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك ، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك - : لكان كفره أعظم ، فعلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط ، ولا الكفر هو التكذيب فقط ، بل إذا كان الكفر [ ص: 473 ] يكون تكذيبا ، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب . فكذلك الإيمان ، يكون تصديقا وموافقة وانقيادا ، ولا يكفي مجرد التصديق ، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان .
ولو سلم الترادف ، فالتصديق يكون بالأفعال أيضا . كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إلى أن قال : العينان تزنيان ، وزناهما النظر ، والأذن تزني ، وزناها السمع . وقال والفرج يصدق ذلك ويكذبه رحمه الله : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكنه ما وقر في الصدر وصدقته الأعمال . ولو كان تصديقا فهو تصديق مخصوص ، كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم ، وليس هذا نقلا للفظ ولا تغييرا له ، فإن الله لم يأمرنا بإيمان [ ص: 474 ] مطلق ، بل بإيمان خاص ، وصفه وبينه . فالتصديق الذي هو الإيمان ، أدنى أحواله أن يكون نوعا من التصديق العام ، فلا يكون مطابقا له في العموم والخصوص ، من غير تغيير للبيان ولا قلبه ، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفا من العام والخاص ، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق . أو لأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ، فإن هذه من لوازم الإيمان التام ، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم . الحسن البصري
ونقول : إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة ، وتخرج عنه أخرى ، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ، ولكن الشارع زاد فيه أحكاما ، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي ، فهو حقيقة شرعية ، مجاز لغوي ، أو أن يكون قد نقله الشارع . وهذه أقوال لمن سلك هذه الطريق .
وقالوا : إن الرسول قد وقفنا على معاني الإيمان ، وعلمنا من مراده علما ضروريا أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان ، مع قدرته على ذلك ، ولا صلى ، ولا صام ، ولا أحب الله ورسوله ، ولا خاف الله بل كان مبغضا للرسول ، معاديا له يقاتله - : أن هذا ليس بمؤمن .