فقد نص على صحة هذه الأحاديث والأخذ بظاهرها والإنكار على من فسرها، وذلك أنه ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما نستحقه، لأنا لا نثبت ضحكا هو فتح الفم وتكشير شفتين وأسنان، ولا نثبت أضراسا ولهوات هي جارحة ولا أبعاضا، بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا الوجه واليدين والسمع والبصر، وإن لم نعقل معناه، ولا يجب أن نستوحش من إطلاق هذا اللفظ إذا ورد به سمع، كما لا نستوحش من إطلاق ذلك في غيره من الصفات.
فإن قيل: هذا محمول على إظهار فضله ونعمه بالإثابة: للرجلين المقتولين في سبيل الله، كأنه بين ثوابهما وأظهر من كرامته لهما، وكذلك قوله: "ضحكت لضحك ربي" أي لإظهار فضله وكرامته، لأن الضحك في اللغة هو الإظهار من قولهم: ضحكت الأرض بالنبات، إذا ظهر فيها النبات وانفتق عن زهره، وكذلك قالت العرب لطلع النخل إذا تفتق عنه فيقولون: ضحكت الطلعة، إذا [ ص: 219 ] ظهر منها ما كان مستترا، وكذلك قول القائل:
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
، وأنشد ابن الأعرابي:أما ترى الأرض قد أعطت زهرتها مخضرة فاكتسي بالنور عاريها
وللسماء بكاء في جوانبها وللربيع ابتسام في نواحيها
وقد أجمعنا ومثبتو الصفات على فساد هذا التأويل كذلك هاهنا، ولأن الضحك إذا أضيف إلى الذات لم يعقل منه ما قالوه من إظهار الفضل والنعمة، ولهذا إذا قيل: ضحك الأمير، لا يعقل منه ما قالوه، كذلك في صفاته سبحانه، ولأن في الخبر ما يسقط هذا وهو قوله: "يتجلى ضاحكا حتى تبدو أضراسه ولهواته"، وهذه الصفة تختص الذات دون ما ذكروه من النعم والفضل. [ ص: 220 ]
فإن قيل: لا يخلو إما أن تقولون يضحك في وقت دون وقت، أو يستديم الضحك، فإن قلتم يضحك في حال دون حال، جعلتم ذاته محلا للحوادث، وإن قلتم يستديم ذلك أضفتم صفة منكرة، لأنه يقال لمن كثر ضحكه: فلان ضحكة هزأة، قيل: نقول فيه ما تقولون في الغضب والرضا والكراهة، مع جواز هذا التقسيم، وعلى أنه لا يمتنع أن يكون صفة ذات يظهرها في وقت، كما يظهر ذاته في وقت دون وقت، ولا يفضي ذلك إلى ما قالوه لأن من كثر ضحكه سمي ضحكة إذا كان ضحكه من الأشر والبطر، وهذا مستحيل في صفاته سبحانه.
فأما قوله: "لن نعدم من رب يضحك خيرا" فذلك لأن الضحك يدل على الرضا، والرضا يدل على العفو والمغفرة، وقد ذكر ابن قتيبة هذا التأويل في كتاب "اللفظ" وأجاب عنه بأنه إن كان في الضحك الذي فروا منه تشبيه بالإنسان، فإن في هذا تشبيها بهذه المعاني. [ ص: 221 ]
"حديث آخر"