الباب السابع: في تلبيس إبليس على الولاة والسلاطين
قال المصنف: قد لبس عليهم إبليس من وجوه كثيرة نذكر أمهاتها. فالوجه الأول أنه وينكشف هذا التلبيس بأنهم إن كانوا نوابا عنه في الحقيقة فليحكموا بشرعه وليتبعوا مراضيه فحينئذ يحبهم لطاعته، فأما صورة الملك والسلطنة فإنه قد أعطاها خلقا ممن يبغضه وقد بسط الدنيا لكثير ممن لا ينظر إليه وسلط جماعة من أولئك على الأولياء والصالحين فقتلوهم وقهروهم فكان ما أعطاهم عليهم لا لهم ودخل ذلك في قوله تعالى: ( يريهم أن الله عز وجل يحبهم ولولا ذلك ما ولاهم سلطانه ولا جعلهم نوابا عنه في عباده. إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) .
والثاني أنه فيتلفون الدين والمعلوم أن الطبع يسرق من خصال المخالطين فإذا خالطوا مؤثري الدنيا الجهال بالشرع سرق الطبع من خصالهم مع ما عنده منها ولا يرى ما يقاومها ولا ما يزجره عنها وذلك سبب الهلاك. يقول لهم الولاية تفتقر إلى هيبة فيتكبرون عن طلب العلم ومجالسة العلماء بآرائهم
والثالث أنه ويتوانى من جعل بصدد رفع المظالم، وقد روى يخوفهم الأعداء ويأمرهم بتشديد الحجاب فلا يصل إليهم أهل المظالم. أبو مريم الأسدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عز وجل دون حاجته وخلته وفقره".
والرابع أنهم ويحد من لا يجب عليه الحد ويظنون أنهم يتخلصون من الله عز وجل مما جعلوه في عنق الوافي هيهات إن العامل على الزكاة إذا وكل الفساق بتفرقتها فخانوا ضمن. والخامس أنه يستعملون من لا يصلح ممن لا علم عنده ولا تقوى فيجتلب الدعاء عليهم بظلمه الناس ويطعمهم الحرام بالبيوع الفاسدة وتحت هذا من المعنى أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى إتمام ونحن نتمها بآرائنا. يحسن لهم العمل برأيهم فيقطعون من لا يجوز قطعه ويقتلون من لا يحل قتله ويوهمهم أن هذه سياسة
وهذا من أقبح التلبيس لأن الشريعة سياسة إلهية ومحال أن يقع في سياسة [ ص: 129 ] الإله خلل يحتاج معه إلى سياسة الخلق قال الله عز وجل: ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وقال: ( لا معقب لحكمه ) فمدعي السياسة مدعي الخلل في الشريعة. وهذا يزاحم الكفر. وقد روينا عن عضد الدولة أنه كان يميل إلى جارية فكانت تشغل قلبه فأمر بتغريقها لئلا يشتغل قلبه عن تدبير الملك. وهذا هو الجنون المطبق لأن وإن اعتقده غير جائز لكنه رآه مصلحة فلا مصلحة فيما يخالف الشرع. قتل مسلم بلا جرم لا يحل واعتقاده أن هذا جائز كفر
والسادس أنه يحسن لهم الانبساط في الأموال ظانين أنها بحكمهم.
وهذا تلبيس يكشفه وجوب الحجر على المفرط في مال نفسه فكيف بالمستأجر في حفظ مال غيره. وإنما له من المال بقدر عمله فلا وجه للانبساط. قال وقد روي عن ابن عقيل: حماد الرواية أنه أنشد الوليد بن يزيد أبياتا فأعطاه خمسين ألفا وجاريتين قال وهذا مما يروى على وجه المدح لهم وهو غاية القدح فيهم لأنه تبذير في بيت مال المسلمين. وقد يزين لبعضهم منع المستحقين وهو نظير التبذير.
والسابع أنه وجواب هذا أن يقال: إنما وليتم لتحفظوا البلاد وتؤمنوا السبل وهذا وجب عليهم وما انبسطوا فيه من المعاصي منهي عنه فلا يرفع هذا ذلك. يحسن لهم الانبساط في المعاصي ويلبس عليهم أن حفظكم للسبيل وأمن البلاد بكم يمنع عنكم العقاب
والثامن أنه وقد روينا عن يلبس على أكثرهم بأنه قد قام بما يجب من جهة أن ظواهر الأحوال مستقيمة ولو حقق النظر لرأى اختلالا كثيرا. القاسم بن طلحة بن محمد الشاهد قال رأيت علي بن عيسى الوزير وقد وكل بدور البطيخ رجلا برزق يطوف على باعة العنب فإذا اشترى أحد سلة عنب خمري لم يعرض له، وإن اشترى سلتين فصاعدا طرح عليها الملح لئلا يتمكن من عملها خمرا. قال: وأدركت السلاطين يمنعون المنجمين من القعود في الطرق حتى لا يفشو العمل بالنجوم، وأدركنا الجند ليس فيهم أحد معه غلام أمرد له طرة ولا شعر إلى أن بدئ بحكم العجم.
والتاسع أنه وإنما الطريق إقامة البينة على الخائن، وقد روينا عن يحسن لهم استجلاب الأموال واستخراجها بالضرب العنيف وأخذ كل ما يملكه الخائن واستخلافه أن غلاما كتب له: أن قوما خانوا في مال الله ولا أقدر على استخلاص ما في أيديهم إلا أن أنالهم بعذاب فكتب إليه: لأن يلقوا الله [ ص: 130 ] بخيانتهم أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم. عمر بن عبد العزيز
والعاشر أنه ويقول: إن درهما من الصدقة يمحو إثم عشرة من الغصب، وهذا محال لأن إثم الغصب باق ودرهم الصدقة إن كان من الغصب لم يقبل، وإن كانت الصدقة من الحلال لم يدفع أيضا إثم الغصب لأن إعطاء الفقير لا يمنع تعلق الذمة بحق آخر. يحسن لهم التصدق بعد الغصب. يريهم أن هذا يمحو ذلك.
والحادي عشر أنه وهذا الخير لا يدفع ذلك الشر، وفي الحديث عن يحسن لهم مع الإصرار على المعاصي زيارة الصالحين وسؤالهم الدعاء ويريهم أن هذا يخفف ذلك الإثم، الحسين بن زياد قال سمعت منيعا يقول مر تاجر بعشار فحبسوا عليه سفينته فجاء إلى فذكر له ذلك فقام مالك فمشى معه إلى العشار فلما رأوه قالوا يا مالك بن دينار ألا بعثت إلينا في حاجتك قال حاجتي أن تخلو عن سفينة هذا الرجل. قالوا قد فعلنا. قال وكان عندهم كوز يجعلون ما يأخذون من الناس من الدراهم فيه فقالوا ادع لنا يا أبا يحيى قال قولوا للكوز يدعو لكم كيف أدعو لكم وألف يدعون عليكم أترى يستجاب لواحد ولا يستجاب لألف. أبا يحيى
والثاني عشر أن وهذا باطل لأنه معين على الظلم، وكل معين على المعاصي عاص، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ومن هذا الفن أن يجبي المال لمن هو فوقه وقد علم أنه يبذل فيه ويخون فهذا معين على الظلم أيضا، وفي الحديث بإسناد مرفوع إلى من الولاة من يعمل لمن فوقه فيأمره بالظلم فيظلم ويلبس عليهم إبليس بأن الإثم على الأمير لا عليك قال: سمعت جعفر بن سليمان يقول: مالك بن دينار والله الهادي إلى الصواب. كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة.