قال وحكي عن بعض الأكابر من أستاذي أبو عبد الله : المرجئة : وغيره ، أنهم قالوا : المعرفة ، والإقرار باللسان كالدابة البلقاء لا يسمى بلقاء حتى يجتمع فيها اللونان : السواد ، والبياض ، فإذا انفرد أحدهما لم يسم الدابة بلقاء ، ولا يسمى كل واحد من اللونين على الانفراد بلقاء ، فإذا اجتمعا في الدابة ، سميا بلقاء ، فكذلك المعرفة ، والإقرار إذا انفرد كل واحد منهما لم يسميا إيمانا ، ولا يسمى الإنسان به مؤمنا . النعمان بن ثابت
فإذا اجتمعا سميا إيمانا ، ويسمى المؤمن باجتماعهما مؤمنا .
قالوا : وذلك أيضا كالنورة ، والزرنيخ لا يتحلق كل واحد منهما على الانفراد ، فإذا اجتمعا حلقا .
فيقال لهم : إن هذين المثلين اللذين ضربتموهما ، هما عليكم ، لا لكم ، لأن الدابة إذا انفردت بأحد اللونين ، لم تسم بلقاء أبدا ، ولا يسمى اللون بلقاء على حال من الأحوال ما لم يجتمعا في الدابة ، وأنتم قد تسمون المؤمن مؤمنا إذا اعتقد المعرفة ، والإيمان بالقلب ، وإن لم يقر بلسانه ، إذا كان أخرس ، أو حيل بينه وبين الكلام ، ويسمون ذلك الفعل منه إيمانا . [ ص: 799 ]
وكذلك لو أقر بلسانه مرة ، ثم سكت عن الكلام ، فلم يتكلم أبدا ، لكان عندكم مؤمنا ، ولو أن الدابة البلقاء زال عنها البياض ، وبقي السواد ، وبقي البياض ، لزال عنها اسم البلق ، فلم يسم بلقاء أبدا ، ولم يسم اللون الواحد إذا بقي بلقاء أبدا .
وكذلك المؤمن المولود على الإيمان ، الناشئ عليه ، المعتقد للمعرفة ، والتصديق بالقلب ، هو مؤمن عندكم ، وإن لم يتكلم بلسانه أبدا ، ولو أن الدابة نتجت ، ولونها كلها بياض ، لا سواد فيه ، أو سواد لا بياض فيه ، لم يسم بلقاء أبدا .
فقد بطل أن يكون الدابة مثلا للمؤمن ، والبلق مثلا للإيمان إذا افترق معناهما ، ولأن المعرفة والإقرار فعلان يزول أحدهما ، ويثبت الآخر ، إذا كان الفاعل له معتقدا للمعرفة ، والاعتراف بالقلب خاضعا مذعنا ، وإن لم يتكلم بلسانه ، ويكون ذلك الفعل منه إيمانا ، ولو أقر بلسانه إيماء ، ولم يعلم ما في قلبه يسمى مؤمنا ، ويسمى ذلك الإقرار منه إيمانا ، وحكم له بحكم الإيمان ، وجرى على فاعله اسم المؤمن ، وأحكامه ، فكان مؤمنا في الاسم ، والحكم معا ، والدابة إذا ظهر فيها أحد اللونين ، [ ص: 800 ] ولم يظهر الآخر ، لم يسم بلقاء ، ولم يسم ذلك اللون المنفرد بلقاء أبدا ، فقد افترق معنى الإيمان ، واسمه من معنى البلق في الدابة ، واسمه ، وفارق المؤمن الدابة البلقاء في الاسم والمعنى جميعا ، فبطل أن يكون أحدهما مثل الآخر . وفعل القلب يسمى تصديقا في اللغة ،
وأما ضربكم المثل بالنورة ، والزرنيخ ، فذلك أبعد في المثل ، وليس يخلو ضربكم المثل بهما من أن تكونوا مثلتم النورة ، والزرنيخ بالإيمان ، أو بالمؤمن ، فإن كان بالمؤمن ، فينبغي أن يكون المؤمن جسمين يجتمعان ، فيكون منهما الإيمان كالنورة والزرنيخ ، يكون منهما الحلق ، وهذا محال من الكلام .
وإن تكونوا مثلتموهما بالإيمان ، وكل واحد منهما غير جنس صاحبه ، ولا جوهره ، فإذا اجتمعا ، وهما جنسان مختلفان ، كان منهما الحلق ، فإن يكن الحلق مثلا للإيمان ، فالإيمان إذا معنى متولد عن الإقرار ، والمعرفة ، وليس الإقرار ، والمعرفة بإيمان ، كما أن الحلق ليس بزرنيخ ، ولا نورة .
وإن تكونوا مثلتموهما على الإيمان لأن الحلق يتولد عنهما كالطاعة يتولد عن المعرفة ، والإقرار ، فقد جعلتم [ ص: 801 ] اثنين مختلفين في أعيانهما ، كل واحد منهما غير الآخر ، يسمى كل واحد منهما باسم غير اسم الآخر ، وما تولد منهما غيرهما ، فالإيمان إذا اثنان يوجبان الطاعة على قياس قولكم .
فإن قلتم : إنما أردنا أن كل واحد منهما لا يسمى حالقا ، حتى يجتمعا ، فكذلك الإقرار ، والمعرفة ، لا يسمى كل واحد منهما إيمانا ، حتى يجتمعا .
قيل لهم : إن الحلق فعل متولد عنهما ، سميا به حالقان ، لا لأعيانهما حين اجتمعا ، وأنتم تسمون الإقرار ، والمعرفة إيمانا في أنفسهما ، وإن لم يتولد عنهما طاعة .
فإن قالوا : إنهما إذا اجتمعا كان الحلق من فعلهما ، وإن لم يحلقا ، فالاسم لهما ثابت ، فكذلك الإقرار والمعرفة .
قيل لهم : إنهما لا يحلقان ، ولا يكون لهما الاسم ثابتا ، حتى يجتمعا مع الماء ، وهو جسم ثالث ، فكذلك الإقرار ، والمعرفة لا يسميان إيمانا ، حتى يجتمع معهما جسم ثالث .