القسم الثاني : أن يكون الشارع قد اعتبر ، ولا جنسه في عين ذلك الحكم ولا جنسه في جنسه ، ولا دل على كونه علة نص ، ولا إجماع لا بصريحه ولا إيمائه . خصوص الوصف في خصوص [ ص: 283 ] الحكم من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في أصل آخر متفق عليه
وذلك كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم تناول النبيذ ، وقد ثبت اعتبار عينه في عين التحريم في الخمر ، ولم يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم ولا جنسه في عينه ولا جنسه في جنسه ولا إجماع عليه ، فلو قدرنا انتفاء النصوص الدالة على كون الإسكار علة فلا يكون معتبرا بنص أيضا ، وهذا هو المناسب الغريب ، وهو مختلف فيه بين القياسين وقد أنكره بعضهم ، وإنكاره غير متجه لأنه يفيد الظن بالتعليل .
ولهذا فإنا إذا رأينا شخصا قابل الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة مع أنه لم يعهد من حاله قبل ذلك شيء فيما يرجع إلى المكافأة وعدمها ، غلب على الظن ما رتب الحكم عليه .
والذي يؤيد ذلك أنه لا يخلو إما أن يكون الحكم قد ثبت لعلة أو لا لعلة .
فإن كان لا لعلة فهو بعيد ; لما سبق تقريره من امتناع خلو الأحكام عن العلل .
وإن كان لعلة فإما أن يكون لما لم يظهر ، أو لما ظهر . الأول ويلزم منه التعبد وهو بعيد على ما عرف ، والثاني هو المطلوب .
فإن قيل : الفرق بين ما نحن فيه وبين صورة الاستشهاد أنا قد ألفنا من تصرفات العقلاء مقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة ، فكان ذلك من قبيل القسم الأول ، وهو الملائم المتفق عليه لا من قبيل القسم الثاني وهو الغريب المختلف فيه .
قلنا : نحن إنما نفرض الكلام في شخص لم يعهد من حاله قبل ذلك الفعل موافقة ولا مخالفة ، فلا يكون من الملائم المتفق عليه ولا من الملغى ، ومع ذلك فإن التعليل يظهر من فعله لكل عاقل نظرا إلى أن الغالب إنما هو غلبة طبيعة المكافأة بالانتقام والإحسان في حق العاقل ، كما أن الغالب من الشارع اعتبار المناسبات دون إلغائها . وليس هذا من القسم الأول في شيء ; لأن القسم الأول مفروض فيما علم من الشارع اعتبار العين في العين فيه والجنس في الجنس ، والفرق بين الأمرين ظاهر .
القسم الثالث : أن يكون الشارع قد اعتبر ، أي أنه لم يعتبر مع ذلك عينه في عينه ولا عينه في جنسه ولا جنسه في عينه [ ص: 284 ] ولا دل عليه نص ولا إجماع ، وهذا أيضا من جنس المناسب الغريب المختلف فيه بين القياسيين ، إلا أنه دون القسم الثاني . جنس الوصف في جنس الحكم لا غير
وذلك لأن الظن الحاصل باعتبار الخصوص في الخصوص لكثرة ما به الاشتراك أقوى من الظن الحاصل من اعتبار العموم في العموم ، وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف ، فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر بل من جنسها ، وعين التخفيف عن المسافر بإسقاط الركعتين الزائدتين ليس عين التخفيف عن الحائض بإسقاط أصل الصلاة بل من جنسها .
واعلم أن الوصف المعلل به وكذلك الحكم المعلل له أجناس :
منها ما هو عال ليس فوقه ما هو أعلى منه .
ومنها ما هو قريب إليه ليس بينه وبينه واسطة .
ومنها ما هو متوسط بين الطرفين إما على السواء أو أنه إلى أحد الطرفين أقرب من الآخر .
فأما الجنس العالي للحكم الخاص فكونه حكما ، وأخص منه كونه وجوبا أو تحريما أو غير ذلك من الأحكام .
وأخص من الوجوب العبادة وغير العبادة ، وأخص من العبادة الصلاة وغير الصلاة ، وأخص من الصلاة الفرض والنفل .
وأما الجنس العالي للوصف الخاص فكونه وصفا تناط الأحكام به ، وأخص منه كونه مناسبا بحيث يخرج منه الشبهي ، وأخص منه المصلحة الضرورية ، وأخص منه حفظ النفس والعقل .
وعلى هذا النحو فالظن في هذا القسم مما يزيد وينقص بسبب التفاوت فيما به الاشتراك من الجنس العالي والمتوسط .
فما كان الاشتراك فيه بالجنس السافل فهو أغلب على الظن ، وما كان الاشتراك فيه بالأعم فهو أبعد ، وما كان بالمتوسط فمتوسط على الترتيب في الصعود والنزول .
القسم الرابع : بطريق من الطرق المذكورة ولا ظهر إلغاؤه في صورة ، ويعبر عنه بالمناسب المرسل المناسب الذي لم يشهد له أصل من أصول الشريعة بالاعتبار [1] ، وسيأتي الكلام عنه فيما بعد .
[ ص: 285 ] القسم الخامس : المناسب الذي لم يشهد له أصل بالاعتبار بوجه من الوجوه وظهر مع ذلك إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في صوره ، فهذا مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به ، وذلك كقول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان وهو صائم : ( يجب عليك صوم شهرين متتابعين ) .
فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله ، قال : لو أمرته بذلك لسهل عليه ذلك واستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوة فرجه ، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم مبالغة في زجره ، فهذا وإن كان مناسبا غير أنه لم يشهد له شاهد في الشرع بالاعتبار مع ثبوت إلغائه بنص الكتاب .