الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          القسم الثالث : أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا لو لم يقدر التعليل به لما كان لذكره فائدة ، ومنصب الشارع مما ينزه عنه ، وذلك لأن الوصف المذكور إما أن يكون مذكورا مع الحكم في كلام الله تعالى أو كلام رسوله .

          فإن كان في كلام الله تعالى وقدرنا أنه لو لم يقدر التعليل به فذكره لا يكون مفيدا ، ولا يخفى أن ذلك غير جائز في كلام الله تعالى إجماعا نفيا لما لا يليق بكلامه عنه .

          وإن كان ذلك في كلام رسوله فلا يخفى أن الأصل إنما هو انتفاء العبث عن العاقل في فعله وكلامه ونسبة ما لا فائدة فيه إليه ; لكونه عارفا بوجوه المصالح والمفاسد ، فلا يقدم في الغالب على ما لا فائدة فيه ، وإذا كان ذلك هو الظاهر [ ص: 257 ] من آحاد العقلاء فمن هو أهل للرسالة عن الله تعالى ونزول الوحي عليه وتشريع الأحكام أولى .

          وإذا عرف ذلك فيجب اعتقاد كون الوصف المذكور في كلامه مع الحكم علة له .

          وهذا القسم على أصناف ، وذلك لأن الشارع إما أن يذكر ذلك ابتداء من غير سؤال أو بعد السؤال ، فإن كان من غير سؤال فهو ( الصنف الأول ) وذلك كما في حديث ابن مسعود ليلة الجن ، حيث توضأ - عليه السلام - بماء كان قد نبذ فيه ‌‌تميرات لاجتناب ملوحته فقال : ( ثمرة طيبة وماء طهور ) [1] فإنه يدل على جواز الوضوء به ، وإلا كان ذكره ضائعا ; لكون ما ذكر ظاهر غير محتاج إلى بيان .

          وإن كان مع السؤال فلا يخلو إما أن يذكر ذلك الوصف في محل السؤال أو في غيره ، فإن كان في محل السؤال فهو ( الصنف الثاني ) وذلك كما روي عنه - عليه السلام - أنه سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا : نعم ، فقال : فلا إذا " [2] فهذا وإن فهم منه أن النقصان علة امتناع بيع الرطب بالتمر من ترتيبه الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بحرف ( إذا ) وهي من صيغ التعليل غير أنا لو قدرنا انتفاء هذين لبقي فهم التعليل بالنقصان بحاله نظرا إلى أنه لو لم يقدر التعليل به لكان ذكره والاستفسار عنه غير مفيد .

          وإن كان في غير محل السؤال ، وهو أن يعدل في بيان الحكم إلى ذكر نظير لمحل السؤال ، فهو ( الصنف الثالث ) ، وذلك كما روي عنه - عليه السلام - أنه لما [ ص: 258 ] سألته الجارية الخثعمية وقالت : يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإن حججت عنه أينفعه ذلك ؟ فقال - عليه السلام - : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك ؟ فقالت : نعم ، قال : فدين الله أحق بالقضاء . [3] فالخثعمية إنما سألت عن الحج والنبي - عليه السلام - ذكر دين الآدمي والحج من حيث هو دين نظير لدين الآدمي ، فذكره لنظير المسئول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل به وإلا كان ذكره عبثا .

          ويلزم من كون نظير الواقعة علة للحكم المرتب عليها أن يكون المسئول عنه أيضا علة لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة .

          وما مثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس ، فكأنه نبه على الأصل وعلى علة حكمه وعلى صحة إلحاق المسئول عنه بواسطة العلة المومي إليها .

          وليس من هذا القبيل ما مثل به بعض الأصوليين ، وذلك كما روي عن عمر أنه سأل النبي - عليه السلام - عن قبلة الصائم هل تفسد الصوم ؟ فقال - عليه السلام - : أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك يفسد الصوم ؟ فقال : لا . وذلك لأن النبي - عليه السلام - إنما ذكر ذلك بطريق النقض لما توهمه عمر من كون القبلة مفسدة للصوم لكونها مقدمة للوقاع المفسد للصوم ، فنقض النبي - عليه السلام - ذلك بالمضمضة فإنها مقدمة للشرب المفسد للصوم وليست مفسدة للصوم .

          أما أن يكون ذلك تنبيها على عدم الإفساد بكون المضمضة مقدمة للفساد فلا .

          وذلك لأن كون القبلة والمضمضة مقدمة لإفساد الصوم ليس فيه ما يتخيل أن يكون مانعا من الإفطار ، بل غايته أن لا يكون مفطرا ، فكان الأشبه بما ذكره النبي - عليه السلام - أن يكون نقضا لا تعليلا .

          وأيضا فإن الأصل أن يكون الجواب مطابقا للسؤال لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه [ ص: 259 ] أما الزيادة فلعدم الغرض بها .

          وأما النقصان فلما فيه من الإخلال بمقصود السائل .

          وعمر إنما سأل عن كون القبلة مفسدة للصوم أم لا ؟ فالجواب المطابق إنما يكون بما يدل على الإفساد أو عدمه ، وكون القبلة علة لنفي الفساد غير مسئول عنه ، فلا يكون اللفظ الدال على ذلك جوابا مطابقا للسؤال ، بخلاف النقض فإنه يتحقق به أن القبلة غير مفسدة ، فكان جوابا مطابقا للسؤال .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية