الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وإذا عرف معنى المفهوم ، فهو ينقسم إلى ما يسمى مفهوم الموافقة ، وإلى ما يسمى مفهوم المخالفة .

          أما مفهوم الموافقة فما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقا لمدلوله في محل النطق ، ويسمى أيضا فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب ، والمراد به معنى الخطاب ، ومنه قوله تعالى : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) أي في معناه .

          وقد يطلق اللحن ويراد به اللغة ، ومنه يقال " لحن فلان بلحنه " إذا تكلم بلغته ، وقد يطلق ويراد به الفطنة ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض " ( أي : أفطن ) ، وقد يطلق ويراد به الخروج عن ناحية الصواب ، ويدخل فيه إزالة الإعراب عن جهة الصواب .

          [ ص: 67 ] ومثاله تحريم شتم الوالدين وضربهما من دلالة قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) فإن الحكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق للحكم المفهوم في محل النطق ، وكذلك دلالة قوله تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) على تحريم إتلاف أموالهم ، وكدلالة قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) على المقابلة فيما زاد على ذلك .

          وكدلالة قوله تعالى ( الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ) على تأدية ما دون القنطار ، وعدم تأدية ما فوق الدينار ، إلى غير ذلك من النظائر .

          والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى ، وبالأعلى على الأدنى ، ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق ، وإنما يكون كذلك أن لو عرف المقصود من الحكم في محل النطق من سياق الكلام ، وعرف أنه أشد مناسبة واقتضاء للحكم في محل السكوت من اقتضائه له في محل النطق ، وذلك كما عرفنا من سياق الآية المحرمة للتأفيف أن المقصود إنما هو كف الأذى عن الوالدين ، وأن الأذى في الشتم والضرب أشد من التأفيف ، فكان بالتحريم أولى .

          وإلا فلو قطعنا النظر عن ذلك ، لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب العنيف ، ولهذا فإنه ينتظم من الملك أن يأمر الجلاد بقتل والده إذا استيقن منازعته له في ملكه ، وينهاه عن التأفيف ، حيث كان المقصود من الأمر بالقتل إنما هو دفع محذور المنازعة في الملك ، وإن كان القتل أشد في دفعه من التأفيف ، ولذلك لم يلزم من إباحة أعلى المحذورين إباحة أدناهما ، ولا من تحريم أدناهما تحريم أعلاهما .

          وهذا مما اتفق أهل العلم على صحة الاحتجاج به إلا ما نقل عن داود الظاهري أنه قال إنه ليس بحجة ، ودليل كونه حجة أنه إذا قال السيد لعبده " لا تعط زيدا حبة ، ولا تقل له أف ، ولا تظلمه بذرة ، ولا تعبس في وجهه " فإنه يتبادر إلى الفهم من ذلك امتناع إعطاء ما فوق الحبة ، وامتناع الشتم والضرب ، وامتناع الظلم بالدينار [ ص: 68 ] وما زاد ، وامتناع أذيته بما فوق التعبيس من هجر الكلام وغيره ، ولذلك كان المفهوم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " احفظ عفاصها ووكاءها " حفظ ما التقط من الدنانير ، ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - ، في الغنيمة " أدوا الخيط والمخيط " أداء الرحال والنقود وغيرها ، ومن قوله " من سرق عصا مسلم فعليه ردها " رد ما زاد على ذلك .

          وكذلك لو حلف أنه لا يأكل لفلان لقمة ، ولا يشرب من مائه جرعة ، كان ذلك موجبا لامتناعه من أكل ما زاد على اللقمة كالرغيف وشرب ما زاد على الجرعة إلى نظائره غير أن الخلاف واقع في أن مستند الحكم في محل السكوت ، هل هو فحوى الدلالة اللفظية ، أو الدلالة القياسية .

          وقد احتج القائلون بالفحوى بأن العرب إنما وضعت هذه الألفاظ للمبالغة في التأكيد للحكم في محل السكوت .

          وأنها أفصح من التصريح بالحكم في محل السكوت .

          ولهذا فإنهم إذا قصدوا المبالغة في كون أحد الفرسين سابقا للآخر ، قالوا ( هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس ) وكان ذلك عندهم أبلغ من قولهم ( هذا الفرس سابق لهذا الفرس ) وكذلك إذا قالوا : " فلان يأسف بشم رائحة مطبخه " فإنه أفصح عندهم وأبلغ من قولهم " فلان لا يطعم ولا يسقي " .

          واحتج القائلون بكونه قياسا أنا لو قطعنا النظر عن المعنى الذي سيق له الكلام من كف الأذى عن الوالدين ، وعن كونه في الشتم والضرب أشد منه في التأفيف لما قضي بتحريم الشتم والضرب إجماعا ، ولما سبق من جواز أمر الملك للجلاد بقتل والده والنهي عن التأفيف له ، فالتأفيف أصل ، والشتم والضرب فرع ، ودفع الأذى علة ، والتحريم حكم ولا معنى للقياس إلا هذا .

          وسموا ذلك قياسا جليا نظرا إلى أن الوصف الجامع بين الأصل والفرع ثابت بالتأثير .

          والأشبه إنما هو المذهب الأول ، وهو الإسناد إلى فحوى الدلالة اللفظية .

          وما قيل من أنه لا بد من فهم المعنى ، وكونه في محل السكوت أولى بالحكم في محل النطق ، فهو شرط تحقق الفحوى ، ولا مناقضة بينه وبين الفحوى ، ويدل على أنه ثابت بالفحوى لا بالقياس أمران :

          [ ص: 69 ] الأول : أن القياس لا يشترط فيه أن يكون المعنى المناسب للحكم في الفرع أشد مناسبة له من حكم الأصل إجماعا ، وهذا النوع من الاستدلال لا يتم دونه ، فلا يكون قياسا .

          الثاني : أن الأصل في القياس لا يكون مندرجا في الفرع وجزءا منه إجماعا .

          وهذا النوع من الاستدلال قد يكون ما تخيل أصلا فيه جزء مما تخيل فرعا ، وذلك كما لو قال السيد لعبده : " لا تعط لفلان حبة " فإنه يدل على امتناع إعطاء الدينار ، وما زاد عليه ، والحبة المنصوصة تكون داخلة فيه .

          وكذلك قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) فإنه يدل على رؤية ما زاد على الذرة ، والذرة تكون داخلة فيه ، إلى نظائره .

          ولهذا ، فإن كل من خالف في القياس مطلقا وافق على هذا النوع من الدلالة سوى أهل الظاهر ، ولو كان قياسا لما كان كذلك .

          وعلى كل تقدير ، فهو منقسم إلى قطعي وظني .

          أما القطعي : فكما ذكرنا من آية التأفيف حيث إنا علمنا من سياق الآية أن حكمة تحريم التأفيف إنما هو دفع الأذى عن الوالدين ، وأن الأذى في الشتم والضرب أشد .

          وأما في قوله تعالى : ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) فإنه وإن دل على وجوب الكفارة في القتل العمد ، لكونه أولى بالمؤاخذة كما يقوله الشافعي ، غير أنه ليس بقطعي لإمكان أن لا تكون الكفارة في القتل الخطأ موجبة بطريق المؤاخذة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " والمراد به رفع المؤاخذة ، بل نظرا للخاطئ بإيجاب ما يكفر ذنبه في تقصيره ، ومن ذلك سميت كفارة ، وجناية المتعمد فوق جناية الخاطئ .

          وعند ذلك فلا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثم أدنى الجنايتين أن تكون رافعة لإثم أعلاهما .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية