الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة السابعة

          مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة أن الإتيان بالمأمور به يدل على الإجزاء ، خلافا للقاضي عبد الجبار من المعتزلة ومتبعيه ، فإنه قال : لا يدل على الإجزاء .

          وقبل الخوض في الحجاج ، لا بد من تحقيق معنى الإجزاء ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد ، فنقول كون الفعل مجزئا ، قد يطلق بمعنى أنه امتثل به الأمر عندما إذا أتي به على الوجه الذي أمر به ، وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء .

          وإذا علم معنى كون الفعل مجزئا فقد اتفق الكل على أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به ، يكون مجزئا بمعنى كونه امتثالا للأمر ، وذلك مما لا خلاف فيه .

          وإنما خالف القاضي عبد الجبار في كونه مجزئا بالاعتبار الآخر ، وهو أنه لا يسقط القضاء ، ولا يمتنع مع فعله من الأمر بالقضاء وهو مصرح به في عمده .

          وعلى هذا ، فكل من استدل من أصحابنا كإمام الحرمين وغيره من القائلين بالإجزاء على كون الفعل امتثالا وخروجا عن عهدة الأمر الأول ، فقد استدل على محل الوفاق وحاد عن موضع النزاع .

          لكن قد أورد أبو الحسين البصري إشكالا على تفسير إجزاء الفعل بكونه مسقطا للقضاء ، وقال : لو أمر بالصلاة مع الطهارة فأتى بها من غير طهارة ، ومات عقيب الصلاة فإنه لا يكون فعله مجزئا ، وإن كان القضاء ساقطا [1] .

          وربما زاد عليه بعض الأصحاب ، وقال : يمتنع تفسير الإجزاء بسقوط القضاء ؛ لأنا نعلل وجوب القضاء بكون الفعل الأول لم يكن مجزئا ، والعلة لا بد وأن تكون مغايرة للمعلول .

          [ ص: 176 ] والوجه في إبطالهما [2] أن يقال : أما الأول فلأن الإجزاء ليس هو نفس سقوط القضاء مطلقا ليلزم ما قيل ، بل سقوط القضاء بالفعل في حق من يتصور في حقه وجوب القضاء ، وذلك غير متصور في حق الميت [3] .

          وأما الثاني : فلأن علة صحة [4] وجوب القضاء إنما هو استدراك ما فات من مصلحة أصل العبادة ، أو صفتها ، أو مصلحة ما انعقد سبب وجوبه .

          ولم يجب لمانع " لا ما قيل " [5] .

          وإذا تنقح محل النزاع فنعود إلى المقصود ، فنقول : الفعل المأمور به لا يخلو : إما أن يكون قد أتى به المأمور على نحو ما أمر به من غير خلل ولا نقص في صفته وشرطه ، أو أتى به على نوع من الخلل .

          والقسم الثاني : " أنه " لا نزاع في كونه غير مجزئ ولا مسقط للقضاء وإنما النزاع في القسم الأول ، وليس النزاع فيه أيضا من جهة أنه يمتنع ورود أمر مجدد بعد خروج الوقت بفعل مثل ما أمر به أولا ، وإنما النزاع في ورود الأمر بالفعل متصفا بصفة القضاء ، والحق نفيه ؛ لأن القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء ، أو مصلحة صفته ، أو شرطه .

          وإذا كان المأمور به قد فعل على جهة الكمال والتمام ، من غير نقص ولا خلل فوجوب القضاء استدراكا لما قد حصل تحصيل للحاصل ، وهو محال .

          ومن ينفي القضاء إنما ينفيه بهذا التفسير ، وهذا مما يتعذر مع تحقيقه المنازعة فيه ، وإن كان لا ينكر إمكان ورود الأمر خارج الوقت ، بمثل ما فعل أولا غير أنه لا يسميه قضاء ، ومن سماه قضاء فحاصل النزاع معه آيل إلى اللفظ دون المعنى . [ ص: 177 ] شبه الخصوم : الأولى أن من صلى وهو يظن أنه متطهر - ولم يكن متطهرا - مأمور بالصلاة ، فإن كان مأمورا بها مع الطهارة حقيقة فهو عاص آثم بصلاته حيث لم يكن متطهرا ، وإن كان مأمورا بالصلاة على حسب حاله فقد أتى بما أمر به على الوجه الذي أمر به ، ومع ذلك يجب عليه القضاء إذ لم يكن متطهرا .

          وكذلك المفسد للحج مأمور بمضيه في حجه الفاسد على حسب حاله ، ويجب عليه القضاء .

          الثانية : أن الأمر لا يدل على غير طلب الفعل ، ولا دلالة له على امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به ، فلا يكون مقتضيا له .

          الثالثة : أن الأمر مثل النهي في الطلب ، والنهي لا دلالة فيه على فساد المنهي عنه ، فالأمر لا يدل على كون المأمور به مجزئا .

          وجواب الأولى : أنا لا نسلم وجوب القضاء فيما إذا صلى على ظن الطهارة ، ثم علم أنه لم يكن متطهرا على قول لنا ، وإن سلمنا وجوب القضاء لكنه ليس واجبا عما أمر به من الصلاة المظنون طهارتها ، ولا عما أمر به من المضي في الحج الفاسد لأنه قد أتى بما أمر به على النحو الذي أمر به ، وإنما القضاء استدراك لمصلحة ما أمر به أولا من الصلاة مع الطهارة ، والحج العري عن الفساد .

          وعن الثانية : أنا لا نمنع من ورود أمر يدل على مثل ما فعل أولا ، وإنما المدعى أنه إذا أتى المأمور بفعل المأمور به على نحو ما أمر به امتنع وجوب القضاء بما ذكرناه من التفسير [6]

          وعن الثالثة : أنه قياس في اللغة ، وقد أبطلناه وإن سلم صحته ، غير أنا لا نقول بأن الأمر يدل على الإجزاء بمعنى امتناع وجوب القضاء ، بل امتثال الأمر هو المانع من وجوب القضاء على ما تقرر [7] وفرق بين الأمرين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية