الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        [ ص: 89 ] المسألة الثالثة : في المشترك

                        وهو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر
                        ، وضعا أولا من حيث هما كذلك .

                        فخرج بالوضع : ما يدل على الشيء بالحقيقة ، وعلى غيره بالمجاز ، وخرج بقيد أولا : المنقول ، وخرج بقيد الحيثية : المتواطئ ؛ فإنه يتناول الماهيات المختلفة ، لكن لا من حيث هي كذلك بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد .

                        وقد اختلف أهل العلم في المشترك ، فقال قوم : إنه واجب الوقوع في لغة العرب ، وقال آخرون : إنه ممتنع الوقوع . وقالت طائفة : إنه جائز الوقوع .

                        احتج القائلون بالوجوب : بأن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية ، والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك ، ولا ريب في عدم تناهي المعاني ; لأن الأعداد منها وهي غير متناهية بلا خلاف .

                        واحتجوا ثانيا : بأن الألفاظ العامة - كالموجود ، والشيء - ثابتة في لغة العرب ، وقد ثبت أن وجود كل شيء نفس ماهيته ، فيكون وجود الشيء مخالفا لوجود الآخر ، مع أن كل واحد منهما يطلق عليه لفظ الموجود بالاشتراك .

                        وأجيب عن الدليل الأول : بمنع عدم تناهي المعاني ، إن أريد بها المختلفة أو المتضادة ، وتسليمه مع منع عدم وفاء الألفاظ بها إن أريد المتماثلة المتحدة في الحقيقة ، أو المطلقة ، فإن الوضع للحقيقة المشتركة كاف في التفهيم .

                        وأيضا : لو سلم عدم تناهي كل منها ، لكان عدم تناهي ما يحتاج إلى التعبير والتفهيم ممنوعا .

                        وأيضا : لا نسلم تناهي الألفاظ لكونها متركبة من المتناهي ، فإن أسماء العدد غير متناهية مع تركبها من الألفاظ المتناهية .

                        وأجيب عن الدليل الثاني : بأنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغة ، وإن سلمنا ذلك ، لا نسلم أن الموجود مشترك لفظي ، لم لا يجوز أن يكون مشتركا معنويا ؟ وإن سلمنا ذلك ، لم لا يجوز اشتراك الموجودات كلها في حكم واحد ، سوى الوجود [ ص: 90 ] وهو المسمى بتلك اللفظة العامة ؟

                        واحتج القائلون بالامتناع : بأن المخاطبة باللفظ المشترك لا يفيد فهم المقصود على التمام ، وما كان كذلك يكون منشأ للمفاسد .

                        وأجيب : بأنه لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام بسماع اللفظ المشترك ، لكن هذا القدر لا يوجب نفيه ; لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات لا نفيا ولا إثباتا ، والأسماء المشتقة لا تدل على تعيين الموصوفات البتة ، ولم يستلزم ذلك نفيها ، وكونها غير ثابتة في اللغة .

                        واحتج من قال بجواز الوقوع وإمكانه : بأن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم ، وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئا على التفصيل ، وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشيء على الإجمال ، بحيث يكون ذكر التفصيل سببا للمفسدة ، كما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لمن سأله عند الهجرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هو ؟ فقال : هو رجل يهديني السبيل .

                        ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقا بصحة الشيء على التعيين ، إلا أنه يكون واثقا بصحة وجود أحدهما لا محالة ، فحينئذ يطلق اللفظ المشترك ; لئلا يكذب ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك ، فإن أي معنى لا يصح ، فله أن يقول : إنه كان مرادي الثاني .

                        وبعد هذا كله فلا يخفاك أن المشترك موجود في هذه اللغة العربية ، لا ينكر ذلك إلا مكابر ، كالقرء ، فإنه مشترك بين الطهر والحيض ، مستعمل فيهما من غير ترجيح ، وهو معنى الاشتراك ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة .

                        وقد أجيب عن هذا بمنع كون القرء حقيقة فيهما ; لجواز مجازية أحدهما ، وخفاء موضع الحقيقة .

                        ورد : بأن المجاز إن استغنى عن القرينة التحق بالحقيقة وحصل الاشتراك ، وهو المطلوب وإلا فلا تساوي .

                        [ ص: 91 ] ومثل القرء العين ؛ فإنها مشتركة بين معانيها المعروفة ، وكذا الجون مشترك بين الأبيض والأسود ، وكذا عسعس مشترك بين أقبل وأدبر ، وكما هو واقع في لغة العرب بالاستقراء ، فهو أيضا واقع في الكتاب والسنة ، فلا اعتبار بقول من قال : إنه غير واقع في الكتاب فقط ، أو غير واقع فيهما لا في اللغة .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية