الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مكاسب الدعاء المعنوية

مكاسب الدعاء المعنوية

مكاسب الدعاء المعنوية


الدعاء من أعمق العبادات التي تربط العبد بالغيب، فهو قائم على أساس الإيمان بعلم الله وقدرته وسمعه وبصره، وعلى قدر قوة يقين الداعي بهذا الغيب يكون أثر الدعاء وفاعليته في حياته، ويتميز الدعاء بما يتركه من أثر عظيم على صاحبه، فإن الداعي يخرج من الدعاء بشعور إيماني يملأ قلبه ووجدانه، وهذه أحد مقاصد الدعاء المتمثلة في تقوية الصلة بين العبد وربه، وأما تحقق الإجابة فهو أمر يتعلق بحكمة الله وعلمه بحقائق الأمور ومبادئها وعواقبها، والعبد جاهل بذلك وإن بدا له أنه يعلم بعض الأمور، لأجل ذلك قد لا تتحقق بعض الدعوات لكن الداعي قد حقق أعظم مقصد وهو تحقيق الافتقار والانكسار لله، وتعميق الصلة به، وهذا هو الظفر الحقيقي الذي يجب أن يعرفه المسلم ويقدر له قدره.

وبالتالي فإن المسلم الذي عرف حقيقة عبادة الدعاء لا ينحصر حظه ورغبته من الدعاء على أمر الاستجابة؛ إذ يعلم أنه بخير ما دام قد وفق للدعاء، وهو موقن أنه يحصل على غايات عظيمة من وراء الدعاء، وهذه بعض المكاسب المعنوية التي يحصل عليها من الدعاء.
أولا: الدعاء يرسخ التوحيد:
أفضل الدعاء ما كان أساسه التوحيد، وافتتح بالثناء على الله والاعتراف بكماله ووحدانيته، وتجرد القلب فيه للتوحيد، فقد أخرج الترمذي وغيره عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي ﷺ قال: «خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير». يعني: خير ما دعوتُ به أنا والنَّبيون من قبلي، فيكون ذلك بيانًا لهذا الدعاء، وهو قول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، فهذا الذكر يكون بهذا الاعتبار من جملة الدُّعاء، بل هو أفضل الدُّعاء.
وقد جاء ما يدل على ذلك: «كان أكثر دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير» ، أورده الهيثمي في مجمع الزوائد. وقال: رواه أحمد ورجاله موثقون - انتهى.
ويكون هذا من قبيل التَّعريض بالسؤال، يعني: إذا كان هو المعبود وحده، وأنَّ الملك له دون ما سواه، وكذلك له الحمد على كمالاته، ومنها: العطاء، والكرم، والإفضال، والجود، وهو على كلِّ شيءٍ قدير يُعطي، ويُغني، ويُعافي، فيكون ذلك من قبيل التَّعريض بالدُّعاء، كأنَّه يقول: أنا مُعترفٌ بهذه الأوصاف والكمالات لمن يملكها ويتَّصف بها، وأنا فقيرٌ إلى جودك وبرِّك وإحسانك، فيكون هذا أبلغ الدعاء وأفضله.
ثانيا: الدعاء يزيد العبد قربا من الله:
من أبرز المقاصد التي تُظهرها السنة النبوية هي أن الدعاء يُعد وسيلة لمزيد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. فقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» رواه مسلم. يُظهر هذا الحديث أن الدعاء هو من أعظم العبادات التي تقرب المسلم من ربه، خاصة عندما يكون العبد في حالة السجود، فالساجد أقرب إلى الله، ولذلك اختار له النبي صلى الله عليه وسلم عبادة الدعاء ليزيد قربا وصلة بربه، ويترقى في مقامات العبودية الموصلة به إلى ربه.
ثالثا: الدعاء يحقق للداعي المحبة والرضا:
والمقصود أن الداعي في موضع الرضا من الله كونه لجأ إليه وعلق حوائجه ببابه، وجعل رغبه ورهبه له، وهذا من أعظم ما يريده الله من عباده، ودليل هذا ما رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه من لم يسأل الله يغضب عليه»، ومفهومه أن من سأل الله رضي عليه، فالدعاء مما يرضاه الله ويحبه، ويدل عليه أيضا حديث ابن مسعود رفعه: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" أخرجه الترمذي، فالداعي ما دام يدعو فهو مشغول بما يحبه الله ويرضاه، سواء استجيب له في حينه أو تأخرت الإجابة، وكفى بذلك من فضل وكرامة.
رابعا: الدعاء يعين على استصلاح النفس وتقويمها:
ذلك أن الداعي الذي يطمع بتحقيق مطلوبه سيسعى بكل جهده أن يكون على حال يستجاب له، فيمتنع عن كسب الحرام لأنه يعلم أنه من موانع الإجابة، وسيجتهد في البعد عن الآثام قدر ما يستطيع، وسيقدم بين يديه حسنات وقربات حتى تزول الوحشة بينه وبين الله، وهكذا يتطهر الداعي شيئا فشيئا من أثقاله، ويستقيم سلوكه حتى يكون من أهل الإجابة، ولا يزال يتقرب ليجاب، ويتوب ليسمع دعاؤه، ويبتعد عن المحرمات ليكون مرضيا مجاب الدعاء، وبهذا يكون الدعاء بابا من أبواب استصلاح النفس وتقويمها، والعبد إذا كان له حاجة عند بشر مثله وطمع في الوصول إليها، عمد أولا لفعل ما يرضيه ويستميله إلى محبته، حتى إذا رضي عليه أعطاه حاجته، والله أحق بذلك سبحانه، وله المثل الأعلى، فهو الذي يجب أن يرغب إليه العباد وأن يبتغوا مرضاته في كل أمورهم، وهو مع ذلك في غناه التام عن عباده وعبادتهم له.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة