الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنحن نهنئك بتوبة الله عليك، ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتقبل منك، وأن يثبتك، وأن يجعل لك من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأما بخصوص ما سألت عنه من مظالم وحقوق الناس فإن الجواب على ذلك يقتضي الكلام في أمرين:
الأمر الأول: ما هو الواجب عليك تجاه هذه المظالم وحقوق الناس.
الأمر الثاني: ما عليك إذا عجزت عن أداء هذا الواجب.
أما الأمر الأول: فإن الذين باشرت غشهم تتعلق حقوقهم بذمتك لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم- على اليد ما أخذت حتى تؤديه رواه الترمذي وغيره، فيجب عليك مع التوبة إلى الله أن تبذل وسعك في الوصول إلى هؤلاء، ومن لم تعلم القدر الذي غششته فيه فيجب تقديره بغالب الظن، وإعطاؤه له.
وأما من كان مجهولا من هؤلاء فيجب صرف ما له في مصالح المسلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لو حصل بيده أثمان من غصوب وعواري وودائع لا يعرف أصحابها، فإنه يتصدق بها عنهم، لأن المجهول كالمعدوم في الشريعة، والمعجوز عنه كالمعدوم...
وفي هذه المسألة آثار معروفة مثل حديث عبد الله بن مسعود لما اشترى جارية ثم خرج ليوفي البائع الثمن فلم يجده، فجعل يطوف على المساكين ويقول: اللهم هذه عن صاحب الجارية، فإن رضي، فقد برئت ذمتي، وإن لم يرض فهو عني، وله علي مثلها يوم القيامة.
وحديث الرجل الذي غل من الغنيمة في غزوة قبرص، وجاء إلى معاوية يرد إليه المغلول، فلم يأخذه، فاستفتى بعض التابعين فأفتاه بأن يتصدق بذلك عن الجيش، ورجع إلى معاوية فأخبره فاستحسن ذلك، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {التغابن: 16}.
والمال الذي لا نعرف مالكه يسقط عنا وجوب رده إليه، فيصرف في مصالح المسلمين، والصدقة من أعظم مصالح المسلمين، وهذا أصل عام في كل مال جهل مالكه بحيث يتعذر رده إليه كالمغصوب والعواري والودائع تصرف في مصالح المسلمين على مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم". اهـ
وقال أيضا: إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى أصحابها ككثير من الأموال السلطانية ؛ فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك: من الإعانة على البر والتقوى ؛ إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال - إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها - مع التوبة إن كان هو الظالم - إلى مصالح المسلمين. هذا هو قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية. اهـ
وقال الإمام الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة، كالقناطر والربط والمساجد، ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك فيه المسلمون، وإلا فليتصدق به على فقير أو فقراء.
وأما الأمر الثاني: فإذا كنت عاجزا عن إرجاع الحقوق لأصحابها أو بعضها بسبب عدم القدرة على المال اللازم لذلك بقيت في ذمتك إلى حين القدرة عليها، وأما ما لم تعجز عنه وتستطيع إيصاله لأصحابه أو الصدقة به عنهم بما في يدك من المال فيلزمك ذلك إلى أن يتبقى لك منه ما يكفي فقط لسد حاجاتك الأساسية من المسكن والمأكل والمشرب ونحو ذلك لك ولمن تعول فتسامح في هذا القدر إلا إذا كنت تعمل أو تستطيع الحصول على عمل تُسد به هذه الحاجات فيلزمك إخراج هذا المال كله والأصل في ذلك عموم قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن:16).
وإذا مت على ذلك وقد بذلت ما في وسعك لإيصال الحقوق لأصحابها فنرجو أن يغفر الله لك ويعوض الله أصحاب هذه الحقوق من فضله وكرمه.
وراجع لمزيد من التفصيل الفتاوى التالية أرقامها:3519، 58530، 58417.
والله أعلم.