الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التقلل من الدنيا أفضل من الاستكثار منها

السؤال

ما رأي الإسلام بالتطور الوظيفي، والسعي للتوسعة في الرزق زيادة عن الحاجات الأساسية؟
وهل يحث الإسلام -فقط- على العيش الكفاف وتوفر الأساسيات من المأكل، والملبس، والمأوى، أما غيره فليس بضرورة، ولا يجب السعي إليه؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا إشكال في أنه لا يجب على المسلم الاكتساب بما يزيد على الكفاف.

ولا إشكال كذلك في أنه لا يحرم على المسلم الزيادة على الكفاف والتوسع في طلب المال الحلال لمجرد التمتع والترفه، بل هو مباح باتفاق العلماء.

جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح: يسن التكسب ومعرفة أحكامه، حتى مع الكفاية نص عليه، قاله في الرعاية، وقال أيضا فيها: يباح كسب الحلال لزيادة المال، والجاه، والترفه والتنعم والتوسعة على العيال مع سلامة الدين، والعرض، والمروءة، وبراءة الذمة. انتهى.
وقال ابن حزم: اتفقوا على أن ‌الاتساع ‌في ‌المكاسب والمباني من حل إذا أدى جميع حقوق الله قبله مباح، ثم اختلفوا فمن كاره، وغير كاره، ويجب على من لا قوت له، ولمن تلزمه نفقته... ويكره ترك التكسب مع الاتكال على الناس نص على ذلك كله، ويجب التكسب ولو بإيجار نفسه لوفاء ما عليه من دين، ونذر، وطاعة، وكفارة، ومؤنة تلزمه ذكره كله في الرعاية. اهـ.

ومع ذلك: فالاقتصار على الكفاف أسلم من التعرض لفتن الغنى من الطغيان والغفلة، والركون إلى الدنيا. ففي صحيح مسلم:عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قد أفلح من أسلم، ورزق ‌كفافا، وقنعه الله بما آتاه.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.

قال القرطبي في المفهم: أي:كفافا، كما جاء في الرواية الأخرى، ويعني به: ما يقوت الأبدان، ويكف عن الحاجة والفاقة، وهذا الحديث حجة لمن قال: إن الكفاف أفضل من الغنى، والفقر، ووجه التمسك بهذا الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال، وأيضا: فإن الكفاف حالة متوسطة بين الغنى، والفقر، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: خير الأمور أوساطها. وأيضا: فإن هذه الحال سليمة ‌من ‌آفات ‌الغنى، وآفات الفقر المدقع، فكانت أفضل منها .اهـ.

وفي جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: والآثار عن السلف، والصحابة، والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر على الدنيا والزهد فيها وفضل القناعة والرضا بالكفاف والاقتصار على ما يكفي دون التكاثر الذي يلهي ويطغي أكثر من أن يحيط بها كتاب، أو يشتمل عليها باب، والذين زوى الله -عز وجل- عنهم الدنيا من الصحابة أكثر من الذين فتحها عليهم أضعافا مضاعفة....انتهى.

والدليل على أن التقلل من الدنيا والاقتصاد فيها، والرضا بالكفاف منها والاقتصار على ما يكفي ويغني عن الناس - أفضل من الاستكثار منها والرغبة فيها، وأقرب إلى السلامة:

عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء ....

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا....

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمس مائة عام. فهذه الآثار يؤيد بعضها بعضا في فضل القناعة والرضا بالكفاف.

وعن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جده قال: أتي عبد الرحمن بن عوف، بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير وكان خيرا مني ، فلم يوجد له، إلا بردة يكفن فيها، وقتل حمزة، أو رجل آخر، قال إبراهيم: أنا أشك وكان خيرا مني فلم يوجد له، إلا بردة يكفن بها، ما أظننا إلا قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي. اهـ.

وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية:

فالذي يعاقب الرجل عليه الحب الذي يستلزم المعاصي: فإنه يستلزم الظلم، والكذب، والفواحش، ولا ريب أن الحرص على المال والرئاسة يوجب هذا، كما في الصحيحين أنه قال: {إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا}. وعن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: {ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه} . قال الترمذي حديث حسن.

فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين، فأما مجرد الحب الذي في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به، ويترك ما نهى الله عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا، إذا لم يكن معه عمل، وجمع المال إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه.

لكن إخراج فضول المال والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم وأفرغ للقلب وأجمع للهم وأنفع في الدنيا والآخرة. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- {من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا، إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي راغمة. اهـ.

وانظر لمزيد الفائدة الفتويين: 175929، 141031.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني