الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سبيل الجمع بين الغنى وفضيلة الحشر في زمرة المساكين

السؤال

أريد أن أصبح غنيا ولكن بنفس الوقت أريد أن أحشر مع زمرة الفقراء والمساكين كيف أوفق بينهما؟
وشكرا لكم

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا حرج على المسلم في السعي لأن يكون غنيا، فمن أدعية نبينا صلى الله عليه وسلم المأثورة: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. رواه مسلم وغيره. ومنها: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر.. الحديث رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: نعم المال الصالح للرجل الصالح. رواه مسلم. والغنى المطلوب هو أساسا غنى النفس، والغنى عما في أيدي الناس.

وحديث: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين. رواه الترمذي وغيره وصححه الذهبي في التلخيص.

وفي معناه يقول المبارك فوري في شرح الترمذي: فأراد صلى الله عليه وسلم بذلك إظهار تواضعه وافتقاره إلى ربه إرشادا لأمته إلى استشعار التواضع والاحتراز عن الكبر والنخوة، وأراد بذلك التنبيه على علو درجات المساكين وقربهم من الله تعالى. قاله الطيبي رحمه الله.. لكن لم يسأل مسكنة ترجع للقلة بل للإخبات والتواضع والخشوع.

وهذه المسألة ترجع إلى المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر، التي اختلف فيها أهل العلم قديما وتناولها كثير منهم بالبحث على ضوء هذه الأحاديث وغيرها فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح حيث قال: وقد تكلم ابن بطال هنا على مسألة التفضيل بين الغنى والفقر فقال: طال نزاع الناس في ذلك، فمنهم من فضل الفقر واحتج بأحاديث الباب وغيرها من الصحيح والواهي.. واحتج من فضل الغنى بما تقدم من الأحاديث قبل هذا بباب وبغيرها... قال: وأحسن ما رأيت في هذا قول أحمد بن نصر الداودي: الفقر والغنى محنتان من الله يختبر بهما عباده في الشكر والصبر، كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {الكهف: 7} وقال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً {الأنبياء: 35}. وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من شر فتنة الفقر ومن شر فتنة الغنى. ثم ذكر كلاما طويلا حاصله: أن الفقر والغنى متقابلان لما يعرض لكل منهما في فقره وغناه من العوارض فيمدح أو يذم، والفضل كله في الكفاف؛ لقوله تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ. {الإسراء: 29}. وقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.. وعليه يحمل قوله: أسألك غناي وغنى هؤلاء، وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي: اللهم أحيني مسكينا وامتني مسكينا.. الحديث فهو ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فالمراد به أن لا يجاوز به الكفاف انتهى ملخصا.

وممن جنح إلى تفضيل الكفاف القرطبي في المفهم فقال: جمع الله سبحانه وتعالى لنبيه الحالات الثلاث: الفقر والغنى والكفاف، فكان الأول أول حالاته، فقام بواجب ذلك من مجاهدة النفس، ثم فتحت عليه الفتوح فصار بذلك في حد الأغنياء فقام بواجب ذلك من بذله لمستحقه والمواساة به والإيثار، مع اقتصاره منه على ما يسد ضرورة عياله، وهي صورة الكفاف التي مات عليها. قال: وهي حالة سليمة من الغنى المطغي والفقر المؤلم، وأيضا فصاحبها معدود في الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا، بل يجاهد نفسه في الصبر عن القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقر إلا السلامة من قهر الحاجة وذل المسألة.

وقال الإمام ابن القيم في عدة الصابرين: التحقيق أن يقال: أفضلهما أتقاهما لله تعالى، فإن الله سبحانه لم يفضل بالفقر والغنى، كما لم يفضل بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى.

ومن أراد الجمع بين الغنى وفضيلة الحشر في زمرة المساكين فلعل من أسباب ذلك لمن أوتي مالا أن يقوم يكون بأداء حق المال مع التواضع والافتقار إلى الله تعالى..

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني