الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله -تعالى- أن يوفقك، وييسر لك الخير حيث كان، وأن يثبتك على الحق، ويهديك إلى سواء السبيل.
فأما المسألة الأولى، فراجع في جوابها الفتويين: 252241، 406729.
ومنهما يتمهد الجواب عن المسألة الثالثة، فالله -تعالى- لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، بإرسال الرسل، وبلوغ الدعوة. فمن لم تبلغه دعوة الإسلام على وجهها الصحيح، ولم يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالراجح من أقوال أهل العلم أنه يمتحن في عرصات القيامة، كسائر أهل الفترة، بخلاف من بلغته دعوة الإسلام، وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن، برغم توافق هذه الدعوة مع دلالة العقل، والفطرة، والآيات الكونية المبثوثة في الأنفس والآفاق.
وعلى ذلك، فلو سلمنا بما ذكر السائل من أن الإسلام لم يصل لمعظم العالم فلا إشكال؛ لأن بلوغ الدعوة هو شرط التكليف.
والفتوحات الإسلامية وإن كانت لم تتحقق لمناطق واسعة من العالم، إلا أن بلوغ الدعوة لا يتوقف على الفتح وحده، بل يحصل بالأفراد الذين يبلغون دين الله ويدعون إليه، كالتجار والبحارة المسلمين وغيرهم.
وهناك دراسات معتبرة تثبت وجود الإسلام في الأمريكتين قبل وصول كولمبوس إليها، وقد عرف البحارة المسلمون الأمريكتين قبله، ورسموا لهما خرائط دقيقة وعجيبة، كخرائط الريس بيري العثماني المشهورة.
وعلى أية حال، فليس هذا موضع البحث، فالمقصود أن معرفة الإسلام لا تتوقف على الغزو كما فعل عقبة بن نافع وغيره من القادة، كما أن التكليف لا يقع إلا بعد بلوغ الحجة. وراجع في تفصيل ذلك الفتويين: 311626، 158921.
وأما المسألة الثانية، فجوابها يعتمد على فهم معنى تيسير القرآن للذكر، فإن ذلك من دلائل الحق.
فقد نقل البغوي وغيره في تفسير الآية عن سعيد بن جبير قال: يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن. اهـ.
وقال السمعاني في تفسيره: معنى تيسر القرآن للذكر: هو قراءته عن ظهر قلب، ولم يعط هذا في كتاب الله غير هذه الأمة، فإن أهل الكتابين إنما يقرؤوا فهما عن الصحف. اهـ.
وقال الماوردي في النكت والعيون: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: معناه سهلنا تلاوته على أهل كل لسان، وهذا أحد معجزاته؛ لأن الأعجمي قد يقرؤه ويتلوه كالعربي.
الثاني: سهلنا علم ما فيه واستنباط معانيه، قاله مقاتل.
الثالث: هونا حفظه، فأيسر كتاب يحفظ هو كتاب الله، قاله الفراء. اهـ.
وأما كيفية قيام الحجة بالقرآن على غير العربي.
فقال الباقلاني في «تمهيد الأوائل»: إن قالوا: كيف لزمت حجة القرآن الهند والترك وهم لا يعرفون أن ما أتى به معجز؟
قيل لهم: من حيث إنهم إذا فتشوا علموا أن العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أفصح الناس، وأقدرهم على نظم الكلام العربي، وأنهم النهاية في هذا الباب، وأنهم مع ذلك أحرص الناس على تكذيبه صلى الله عليه وسلم، وأنه نشأ معهم وأنهم يعرفون دخيلته وأهل مجالسته في ظعنه وإقامته، وأنه ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه، وأنه مع ذلك كله أجمع تحداهم بمثله أو بسورة من مثله مجتمعين أو مفترقين فعجزوا عن ذلك أجمع.
كما أن حجة موسى وعيسى -عليهما السلام- قائمة على من ليس بساحر ولا طبيب؛ لعلمه بأنهما تحديا أطب الناس وأعظمهم سحرا بمثل ما أتيا به، فعجزوا عن ذلك مع الحرص على تكذيبهما والإتيان بمثل ما أتيا به. اهـ.
وقال الشعراوي في تفسيره: قد يقول قائل: كيف نتحدّى بالقرآن غير العرب وهو بلسان عربي، فهو حجة على العرب دون غيرهم؟
نقول: وهل إعجاز القرآن من حيث أسلوبه العربي وأدائه البياني فقط؟ لا، فجوانب الإعجاز في القرآن كثيرة لا تختلف فيها اللغات، فهل تختلف اللغات في التقنين لخير المجتمع؟ ألم يأْتِ القرآن بمنهج في أمة بدوية أمية يغزو أكبر حضارتين معاصرتين له، هما حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب؟ ألم تكُنْ هذه الظاهرة جديرةً بالتأمل والبحث؟ ثم الكونيات التي تحدَّث القرآن عنها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، وما زال العلم الحديث يكتشفها الآن .. اهـ.
وقال الدكتور عبد الفتاح سلامة في بحثه (أَضواء على القرآن الكريم بلاغته وإعجازه): قد يقول قائل: إن الأعجمي الذي لا يفهم العربية لا يدرك ما في أسلوب القرآن من نظم معجز، وبلاغة عجيبة، ولا يدري من أين يكون إعجازه، وكيف تكون بلاغته، وعندئذ تسقط الحجة في الإعجاز.
والإجابة على هذا التساؤل سهلة ميسورة، فإن الإعجاز لغير العربي قد بدا واضحا في أشياء أخرى، وجوانب مثيرة متعددة غير البلاغة والفصاحة التي لا يدرك مراميها .. فكل يوم تطلع فيه علينا أشياء جديدة، ومكتشفات حديثة، وتبرز إلى الوجود قضايا تحدث عنها القرآن قديما ولم تبد سافرة إلا الآن. ومع ذلك كله لا نلقى أي تناقض أو تصادم بين هذه الجوانب وتلك النواحي، وما في القرآن من نهج اتبعه في التعبير عنها: تناسق تام لا نفرة فيه، بحيث يدرك الأعجمي من هذا التناسق في التعبير، والدقة في الأداء القرآني الذي يتفق وما يكتشفه العلم حديثا، سرا من أسرار الإعجاز في الأسلوب البياني للقرآن المجيد.
ترى مثلا القرآن في تعبيره يسلك هذا المسلك، ويلتزم بهذا الترتيب البديع حين يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. فيقدم السمع أولا، ويثني بالأبصار، وينتهي بالفؤاد، والحقائق العلمية تثبت أن حاسة السمع تؤدي مهمتها أولا منذ اللحظة الأولى من ولادة الإنسان. وحاسة الإبصار تؤدي وظيفتها خلال عشرة أيام، فالبصر يؤدي مهمته ثانيا، ثم يأتي بعد ذلك ما يتعلق بالفؤاد من المعلومات العقلية والقلبية. فالترتيب الذي ورد في الآية القرآنية تلمح من خلاله أن اللفظ المقدم أهم من الألفاظ التي ترد بعد ذلك، وهذا هو التعبير القرآني الدقيق، فإذا جاء هذا التعبير على وفق ما قرره العلم، كان التزاوج بين أسلوب القرآن في بلاغته وفصاحته، وأسلوب العلم في اكتشافه وتقريره… فالأعجمي حين يرى هذا التماثل والانسجام بين التعبير القرآني والاكتشاف العلمي، يتحقق من إعجاز القرآن في بلاغته. اهـ.
ثم إن المسلمين مطالبون بدعوة غير المسلمين -أيا كانت لغتهم- وهذا يقتضي من مجموعهم بذل الجهد في بيان معاني القرآن والسنة بالقدر الذي يُفهَم به الإسلام ولو إجمالا. كما أن غير المسلم إذا سمع بالإسلام مطالب بالبحث عن الحق بجهده ولو بالسؤال عن مغزاه وأصول معناه.
والله أعلم.