الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يمكن تحديد عدد معين من الساعات معينة للهو يمنع الزيادة عليها، بل ما دام المرء يؤدي الواجبات الظاهرة والباطنة، ولا يقصر فيها، فلا يجب عليه صرف بقية وقته في العبادة والذكر. وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: -وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة، يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ثلاث مرات.
وليس المقصود من الحديث أن اليوم يقسم بالتساوي بين العبادات وبين المباحات، كلا، بل المقصود أن المؤمن لا يؤمر أن يكون وقته كله في العبادات المحضة كالذكر ونحوه، بل لا بد له -بحكم بشريته- من أوقات يقضيها في المباح كقضاء الحوائج، ومؤانسة الأهل، أو اللهو المباح ونحو ذلك -وإن كانت هذه المباحات بالنية الصالحة تنقلب إلى عبادات-.
قال ابن عثيمين: لا شك أن الإنسان لا يمكن أن يكون على وتيرة واحدة في إيمانه وحضور قلبه، بل الإنسان ساعة وساعة. ولهذا أمرنا بالطاعات في أوقات مختلفة من صلاة الفجر، ومن صلاة الظهر، ومن صلاة العصر، ومن صلاة المغرب، ومن صلاة العشاء، ثم التهجد. كل هذا من أجل إحياء ذكر الله عز وجل في قلوبنا؛ لأن الإنسان لا بد أن تصيبه فترة يكسل فيها عن طاعة الله عز وجل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعة وساعة) يعني ساعة للعبادة، وساعة للأنس بالأهل والاجتماع إليهم والتحدث إليهم، وما أشبه ذلك. اهـ. من فتاوى نور على الدرب.
واعلم أن المؤمنين في ذلك درجات متفاوتة، فكلما كان المسلم محافظا على وقته في الطاعات والأمور النافعة، كلما كان أقرب إلى رحمة الله ورضوانه.
ولابن القيم كلام نفيس في بيان البرنامج اليومي لطبقات أهل الأيمان، وطريقة صرفهم لأوقاتهم؛ ننقله بشيء من التهذيب.
يقول رحمه الله: أما السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار ومقربون. وهؤلاء الأَصناف الثلاثة هم أَهل اليمين، وهم المقتصدون والأَبرار والمقربون. وأَما الظالم لنفسه فليس من أَصحاب اليمين عند الإِطلاق، وإِن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق، وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.
فأما الظالم لنفسه: فإِنه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته، استقبلها، وقد سبقت حظوظه وشهواته إِلى قلبه، فحركت جوارحه طالبة لها ساعية فيها، فإِذا زاحمها حقوق ربه، فتارة وتارة، فمرة يأْخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة، ومرة يقدم على الذنب، وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة. فهذا حال الظالم لنفسه، مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، والتصديق بالثواب والعقاب. فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران، وهو للأغلب منهما، فإِذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه، وحصل ربحه وحده وخسرانه وحده، وكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله من وراءِ ذلك لا يعدم عباده منه فضله وعدله.
وأما المقتصدون: فأدوا وظيفة تلك المرحلة، ولم يزيدوا عليها ولم ينقصوا منها، فلا حصلوا على أرباح التجار، ولا بخسوا الحق الذي عليهم. فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام، والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته، وتصرفاته التي أذن الله له فيها، مشتغلاً بها قائماً بأعيانها، مؤدياً واجب الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه. فإذا حضرت الفريضة الأُخرى، بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول، فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاءَ الليل فكذلك إلى حين النوم، يأْخذ مضجعه حتى ينشق الفجر، فيقوم إلى غذائه ووظيفته. فإذا جاء الصوم الواجب يقوم بحقه، وكذلك الزكاة الواجبة والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم.
وأما الأبرار المقتصدون: فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه، فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال القبيحة، فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمر الله، فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس، فيركع الضحى، ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب، فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد، فأدى فريضته كما أمر، مكملا لها بشرائطها وأركانها وسننها، وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة، والحضور بين يدي الرب، فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله، آثارا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله، ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله، فهو مغموم مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره، وقرة عينه وحياة قلبه، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة.
هذا وهم في ذلك كله مراعون لحفظ السنن، لا يخلون منها بشيء ما أمكنهم، فيقصدون من الوضوء أكمله، ومن الوقت أوله، ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره، ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة، ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه. هذا دأبهم في كل فريضة.
فإذا كان قبل غروب الشمس توافروا على أذكار المساء الواردة في السنة، نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار، لا يخلون بها أبدا.
فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده، فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة.
وبالجملة، فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر الله، فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربة من الله.
فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى، ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإجابة الدعوة والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال، وزيارتهم وتفقدهم، وقائم بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله، بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار، ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره. فهذا وظيفته دائما.
وأما السابقون المقربون: فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولا من وصف حالهم، وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة. ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ...اهـ.
وعلى كل حال: فإن من المقطوع به أن الترويح لا يسوغ شرعا إلا بالمباحات، وأما المحرمات فلا يسوغ فعلها والترفه بها أبدا. وكلما كان ما يروح به المرء عن نفسه أنفع وأشرف، كلما أعان الإنسان على خير الدنيا والآخرة، فالترويح بإيناس الأهل والأبناء، وقراءة كتب الأدب، وممارسة الرياضات البدنية، ومشاهدة البرامج النافعة، ليس كالترفيه عن النفس بما تقل فائدته كألعاب الفيديو ونحوها.
وانظر الفتويين ذواتي الرقمين: 132744، 129613.
وراجع في ضوابط إباحة اللعب بألعاب الفيديو، الفتوى ذات الرقم: 345763، وإحالاتها.
والله أعلم.