السؤال
الانقياد من شروط لا إله إلا الله، فما الحد المجزئ في تحقق هذا الشرط؟ بحيث إن من لا يفعل هذا الحد يكون قد أخل بشرط الانقياد، فلا تنفعه لا إله إلا الله؟ وقصدي من هذا السؤال المعرفة، وإفادة المسلمين؛ سواء بتعليمهم أم تحذير بعضهم خوفًا عليهم، وهل من تقال له الآيات والأحاديث الدالة على أن شأن المسلم هو الرجوع لله، وللرسول في كل أمور الحياة، والتنازعات، والنوازل، فيكون منهجنا –كمسلمين- هو أنه ما وافق كتاب الله، وسنة رسوله وافقناه، وما خالفهما خالفناه، فهل هذا الذي يترك التحاكم، والرجوع لله، ورسوله، ويرفض هذا المنهج للمسلم، يكون قد أخل هكذا بشرط الانقياد، فنقول: لا تنفعه لا إله إلا الله؟ وهل المتكاسل عن الواجبات يكون مخلًّا بهذا الشرط؟
نريد -بارك الله فيكم- خلاصة هذا الشرط، وحد تحققه؛ لأَفهمه، وأُفهمه بوضوح ويسر -جعل الله ذلك في ميزان حسناتكم، وجزاكم كل خير، وأسأل الحي القيوم لي، ولكم، وللمسلمين العتق من النار-.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فترك الانقياد لشيء من الدين، منه ما يقدح في أصل الإيمان، ومنه ما يقدح في كماله الواجب، ومنه ما يقدح في كماله المستحب، فالإذعان لأحكام الشرع، والتسليم لها، والالتزام بها من حيث الجملة شرط في أصل الإيمان، وهذا عمل قلبي بالأساس، يقوم عليه بعد ذلك عمل الجوارح.
وأما انقياد الجوارح، وقيامها بالأعمال الواجبة، فلا يعد التقصير فيه كفرًا مخرجًا من الملة، كما هو مذهب الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الكبائر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول): الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار، والطمأنينة؛ وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر، وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له، والاستسلام، وهو عمل في القلب، جِمَاعُهُ: الخضوع، والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة، والإقرار؛ فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار، والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق، والانقياد. اهـ.
قال الدكتور/ سعود الخلف في (أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة): الخوارج، والمعتزلة وافقوا السلف في تعريف الإيمان بإدخال الأعمال في مسمى الإيمان، إلا أنهم خالفوا السلف بأن جعلوا الأعمال شرطًا في صحة الإيمان، فمن أخلّ بشيء من الواجبات، أو ارتكب شيئًا من المنهيات عند الخوارج خرج من الإيمان ودخل في الكفر، وعند المعتزلة هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر. أما عند السلف فإن الأعمال من الإيمان، فمن أخلّ بشيء من الواجبات، أو ارتكب شيئًا من المنهيات نقص إيمانه عن القدر الواجب، وعرض نفسه للعقوبة، ولم يستحق اسم الإيمان المطلق، إلا أنه لا يخرج من الإيمان إلا بارتكاب عمل كفري، أو ترك الصلاة على قول كثير من العلماء. اهـ.
وبهذا يعرف أن المتكاسل عن الواجبات ليس مخلًّا بالشرط المتعلق بأصل الدين، بحيث يحكم عليه بالكفر، ما دام مقرًّا بها مذعنًا لها بقلبه، وإنما هو مقصر في الإيمان الواجب، ففيه من الفسق بقدر تقصيره في الواجبات، وفعل المحرمات.
ويتضح المقام أكثر بضرب مثال لمن فقد شرط الانقياد لأصل الدين؛ قال الشيخ/ محمد الحمد في رسائله في العقيدة: إذا علم أحد معنى لا إله إلا الله، وأيقن بها، وقبلها، ولكنه لم ينقد لها، ولم يعمل بمقتضاها، فإن ذلك لا ينفعه، كما هي حال أبي طالب، فهو يعلم أن دين محمد حق، بل إنه ينطق بذلك ويعترف ... فما الذي نقص أبا طالب؟ الذي نقصه هو الإذعان، والاستسلام. وكذلك الحال بالنسبة لبعض المستشرقين؛ فهم يعجبون بالإسلام، ويوقنون بصحته، ويعترفون بذلك، وتجد بعض المسلمين يهشون لذلك الإطراء، ويطربون لهؤلاء القوم، ويصفونهم بالموضوعية، والتجرد. ولكنّ إعجابَهم، ويقينَهم، واعترافَهم لا يكفي، بل لا بد من الانقياد. ومن عدم الانقياد: ترك التحاكم لشريعة الله -عز وجل-، واستبدالها بالقوانين الوضعية. اهـ.
وفي هذا جواب عن سؤال ترك التحاكم والرجوع لله ورسوله صلى الله عليه وسلم! فمن ترك التحاكم لشرع الله معتقدًا أنه يسعه الخروج عليه، أو أن غيره أفضل منه، أو مثله، فقد نقض إسلامه، قال الشيخ/ ابن باز في (نواقض الإسلام): ويدخل في القسم الرابع -يعني: من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه-: من اعتقد أن الأنظمة، والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها، ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلف المسلمين، أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه، دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى. ويدخل في الرابع أيضًا: من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر. ويدخل في ذلك أيضًا: كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات، أو الحدود، أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرمه الله إجماعًا، وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كالزنا، والخمر، والربا، والحكم بغير شريعة الله -فهو كافر بإجماع المسلمين. اهـ.
وهذا بخلاف من التزم بحكم الشرع في الجملة، وأقر بوجوب الرجوع إليه، ولكنه تهاون في ذلك لشهوة، أو غرض دنيوي، مع إقراره بالإثم، وراجع الفتويين: 35130، 1808.
وهنا نذكر للفائدة أن من أنواع الكفر التي ذكرها أهل العلم: كفر الإباء والاستكبار، وهو يناقض انقياد الجوارح، ولكن بسبب التكبر على أمر الله، كحال إبليس؛ قال الدكتور/ عبد الله الجبرين في (مختصر تسهيل العقيدة الإسلامية): كفر الامتناع والاستكبار هو: أن يصدق بأصول الإسلام، وأحكامه بقلبه، ولسانه، ولكن يرفض الانقياد بجوارحه لحكم من أحكامه استكبارًا، وترفعًا. وقد أجمع أهل العلم على كفر من امتنع من امتثال حكم من أحكام الشرع استكبارًا؛ لأنه معترض على حكمة الله تعالى، وهذا قدح في ربوبيته -جلّ وعلا-، وإنكار لصفة من صفات الله تعالى الثابتة في الكتاب، والسنة، وهي صفة "الحكمة". وأوضح مثال على هذا النوع من أنواع الكفر: رفض إبليس امتثال أمر الله تعالى بالسجود لأبينا آدم -عليه السلام- استكبارًا، وترفعًا عن هذا الفعل الذي أمره الله تعالى به، معترضًا على ذلك بأنه هو أفضل من آدم، فلن يسجد له. اهـ.
وقال الدكتور/ سعود الخلف في (أصول مسائل العقيدة): كفر الإباء، والاستكبار: أن يعلم الحق، ويعرفه، ويتكبر عن الانقياد، والإذعان. وذلك مثل كفر إبليس. اهـ.
والله أعلم.