السؤال
سمعت حديثا صحيحا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ـ لدي إشكال بخصوص هذا الحديث فكيف تقطع يد السارق في ربع دينار, ولا تقطع يد أي من هؤلاء الذين هم أشد من السارق في كثير من الأحيان؟ وقد سمعت أحدهم يقول, لأن الحجة هنا هي الخفية, فالسارق مجهول, والخائن والمختلس والمنتهب معلوم, ولكنني لم أقتنع بهذه الحجة, فكلهم سارقون, وكلهم نهبوا أموال الناس وأخذوها وارتكبوا ظلما، فهل الوزير الذي يرأس منصبا في الدولة ويختلس الملايين من الخزينة وأموال الناس لا تقطع يده بينما تقطع يد شخص سرق ربع دينار؟! وماذا عن المنتهب الذي يأخذ الأموال غصبا ويؤذي الناس؟ وكيف لا تقطع يده أو يقتل؟! والخائن الذي يكذب ويسرق الأمانة؟! فهؤلاء لم يسرقوا فحسب, بل سرقوا وخانوا وكذبوا وروعوا الآمنين وآذوا الناس، فقبل أن أعلم بهذا الحديث, ظننت أن الأصناف الثلاثة يعاقبون وبشدة، بل أشد من قطع اليد, لكن بعد علمي بالحديث حدث الإشكال, فبينوا لي الأمر يرحمكم الله, وبعد ذلك أخبروني ما هي عقوبة هؤلاء إن لم تكن قطع اليد عقوبتهم.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث رواه أحمد والأربعة وغيرهم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. اهـ.
وأما فقه الحديث وما يتعلق منه بجواب إشكال السائل، فيمكن تلخيصه في التالي:
1ـ المختلس: هو الذي يأخذ المال جهرة معتمدا على السرعة في الهرب، والمنتهب هو الذي يغلب على المال قهرا وجهرا، وعلى ذلك فالفرق بين السرقة وبين الاختلاس والانتهاب يعود إلى شرط الخفية في السرقة الموجبة لقطع اليد فهو لا يتوافر فيهما، وأما الخيانة: فعدم القطع فيها لقصور شرط الحرز، قال شيخي زاده في مجمع الأنهر: ولا يقطع بخيانة، وهي الأخذ مما في يده على وجه الأمانة، لقصور الحرز ونهب أي: غارة لمال، لأنه أخذ علانية، واختلاس وهو أن يأخذ من اليد بسرعة جهرا. اهـ.
وجاء في تحفة الأحوذي: قال ابن الهمام: خائن ـ اسم فاعل من الخيانة وهو أن يؤتمن على شيء بطريق العارية والوديعة فيأخذه ويدعي ضياعه، أو ينكر أنه كان عنده وديعة أو عارية، وعلله صاحب الهداية بقصور الحرز، لأنه قد كان في يد الخائن وحرزه لا حرز المالك على الخلوص، وذلك لأن حرزه وإن كان حرز المالك، فإنه أحرزه بإيداعه عنده؛ لكنه حرز مأذون للسارق في دخوله. اهـ.
وقال الفيومي في المصباح المنير: فرقوا بين الخائن والسارق والغاصب بأن الخائن هو الذي خان ما جعل عليه أمينا، والسارق من أخذ خفية من موضع كان ممنوعا من الوصول إليه، وربما قيل: كل سارق خائن، دون عكس، والغاصب من أخذ جهارا معتمدا على قوته. اهـ.
2ـ الحكمة في هذا التفريق في حكم القطع، بيَّنها القاضي عياض ـ كما نقله النووي في شرح مسلم ـ فقال: صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة، كالاختلاس والانتهاب والغصب، لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة، فإنه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها، ليكون أبلغ في الزجر عنها. اهـ.
وقال ابن العراقي في طرح التثريب: قد عسر على بعضهم فهم هذا المعنى ورأى أن إثبات القطع في السرقة دون الغصب مما لا يعقل معناه، وقال: إن الغصب أكثر هتكا للحرمة من السرقة وجعل ذلك شبهة له في إنكار القياس، لأنه ثبت في هذه الشريعة مثل هذه الأحكام التي لا مجال للعقل فيها! وهذا قول ضعيف مردود بينا فساده في الأصول. اهـ.
يعني بذلك النظام المعتزلي، حيث استدل على نفي القياس بأن الشرع أوجب قطع يد سارق القليل دون غاصب الكثير مع أنهما متماثلان، قال الأستاذ الدكتور عبد الكريم النملة في المهذب في علم أصول الفقه المقارن: الجواب عنه: أن بين السرقة والغصب فرقا، هو: أن السرقة أخذ مال الغير خفية من حرز مثله في وقت ليس للمال حارس، ولا مدافع، أي: أن السارق لا يمكن الاحتراز منه، حيث إنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يستطيع صاحب المال الاحتراز بحفظ ماله بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطع يده لكثرت السرقة وعظم الضرر واشتدت المحنة بالناس، حيث يجمع شخص ماله بكل مشقة، ثم يأخذه شخص آخر بدون أدنى تعب، أما الغاصب: فإنه يأخذ المال بمرأى من الناس، وبمرأى من صاحب المال، فيمكن التحرز منه، ويمكن للناس أن يأخذوا على يديه، ويقوموا بأخذ حق المظلوم والمغصوب ويشهدوا أمام القضاء على اعتدائه، فثبت أن بين الغاصب والسارق فرقا اقتضى ذلك اختلاف الحكم فيهما، فبطل ما ادعاه النظام من أنهما متماثلان. اهـ.
3ـ العمل بظاهر هذا الحديث ليس محل إجماع بين أهل العلم، قال الشوكاني في نيل الأوطار: ذهب إلى أنه لا يقطع المختلس والمنتهب والخائن: العترة والشافعية والحنفية، وذهب أحمد وإسحاق وزفر والخوارج إلى أنه يقطع، وذلك لعدم اعتبارهم الحرز... اهـ.
وسبب الخلاف هو اختلافهم في فهم الحديث والجمع بينه وبين الأدلة الأخرى، كحديث عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها.. الحديث رواه مسلم.
وفي السنن نحوه من حديث ابن عمر، وفي هذا الحديث دلالة على قطع الخائن، ولذلك سبق أن رجحنا القول بقطع يد جاحد العارية وقلنا: لا يخفى أن المعنى الموجود في السارق موجود مثله في جاحد العارية، بل جاحد العارية أعظم، لأنه لا يمكن التحرز منه نظرا لحاجة الناس إلى العارية ومشقة الإشهاد عليها في كل مرة، فراجع الفتوى رقم: 96405.
4ـ القطع في السرقة من المال العام هي أيضا محل خلاف بين أهل العلم، قال ابن قدامة في المغني: لا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلما، ويروى ذلك عن عمر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي وأصحاب الرأي، وقال حماد ومالك وابن المنذر: يقطع، لظاهر الكتاب.... اهـ.
وفي المسألة تفاصيل أخرى، ذكرنا بعضها في الفتوى رقم: 14984.
وقد انتصر ابن حزم في المحلى لمذهب مالك في القطع، والسبب في عدم قطع السارق من المال العام عند الجمهور هو شبهة الملك، والحدود تدرأ بالشبهات، وقد اشترطوا في القطع ألا يكون للسارق في المسروق ملك ولا تأويل الملك أو شبهته، قال الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في الفقه الإسلامي وأدلته في بيان السبب في اشتراط هذا الشرط: هو أن الجناية حينئذ لا تكون متكاملة، فلا تستدعي عقوبة متكاملة، ويتفرع عن هذا أن السارق لا يقطع بسرقة ما أعاره أو رهنه أو آجره لغيره، لأنه مملوك له، ولا يقطع بسرقة المال المشترك بينه وبين المسروق منه، لأن له حقاً فيه، ولا يقطع بسرقة مال الولد وإن سفل، لأن له تأويل الملك، أو شبهة الملك، لقوله عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك... وكذلك لا يقطع السارق من بيت المال، لأنه مال العامة، فيكون له فيه ملك وحق. اهـ.
وراجع في بيان شروط السارق والمسروق في قطع اليد، الفتوى رقم: 55277.
5ـ ليس في نفي الحد في مثل هذه الصور تهوين لشأن الغصب أو الخيانة أو السرقة من المال العام، لأنه لا خلاف في حرمتها، وأما العقوبة: فتنتقل من الحد إلى التعزير الذي يمكن في بعض الحالات أن يكون عند بعض العلماء أشد من قطع اليد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأفتيت أميرا مقدما على عسكر كبير، في الحربية إذا نهبوا أموال المسلمين ولم ينزجروا إلا بالقتل: أن يقتل من يكفون بقتله ولو أنهم عشرة. اهـ.
والعقوبة التعزيرية بصفة عامة ينبغي أن يجتهد فيها الحاكم لتكون ردعا للمجرم وتهذيبا له، وزجرا لغيره وتخويفا له، جاء في الموسوعة الفقهية: التعزير مشروع لردع الجاني وزجره، وإصلاحه وتهذيبه.. والزجر معناه: منع الجاني من معاودة الجريمة، ومنع غيره من ارتكابها. اهـ.
وفيها أيضا: الجرائم التي شرع فيها التعزير قد تكون من قبيل ما شرع في جنسه عقوبة مقدرة من حد أو قصاص، لكن هذه العقوبة لا تطبق، لعدم توافر شرائط تطبيقها، ومنها ما فيه عقوبة مقدرة، ولكن هذه العقوبة لا تطبق عليها لمانع كوجود شبهة تستوجب درء الحد، أو عفو صاحب الحق عن طلبه. اهـ.
والله أعلم.