السؤال
في حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاباً - أصابه من بعض اليهود - غضب عليه الصلاة والسلام وقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب)، أمتحيرون، أتشكون، (أمتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني). كيف أجمع بين قول القرآن ناسخ لجميع الشرائع وقوله تعالى :(ما فرطنا في الكتاب من شيء) وبين قوله صلى الله عليه وسلم : ( ...لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به ) يعني كيف والقرآن جاء كاملاً ومبيناً لجميع الكذب والحق، فلو حدثونا بحق سنعرفه لأن القرآن بين ذلك، لكن لم أعرف كيف هو معنى الحديث وكيف أجمع بينه وبين الآية ؟
وماحكم قول السنة جاءت مكملة للقرآن ؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأولا: نسخ القرآن لجميع الشرائع معناه أن ما جاء فيه من تشريعات تخالف الشرائع السابقة فإنه يزول بها حكم تلك الشرائع، فلا يُتعبِّدُّ الله بها. وانظر الفتوى رقم: 217975.
ثانيا: اختلف في تفسير قوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ {الأنعام:38}، هل المراد به هو القرآن أم اللوح المحفوظ. قال القرطبي:" قوله تعالى : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل : أي في القرآن أي ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن ؛ إما دلالة مبينة مشروحة ، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول عليه الصلاة والسلام ، أو من الإجماع ، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب..."
ثالثا: لا شك أن القرآن العظيم قد اشتمل على كل ما يحتاج إليه العباد من أحكام الدين ، كما قال الله عز وجل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ{النحل:89} ؛ "فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم" (ابن كثير)
إلا أن هذا لا يعني أنه يشتمل على كل التفاصيل والجزئيات التي ذكرت في الكتب السابقة ، وإنما قد اشتمل على أمور وقواعد كلية يستغني بها العباد في أمور دينهم عن مطالعة تلك الكتب وغيرها. وانظر الفتويين 69383، 162633 وما أحيل عليه فيهما.
كما لا يلزم من ذلك أن يبين جميع الكذب والحق في الكتب السابقة ، فقد قال الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{المائدة:15}. قال ابن كثير:"أي: يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه، وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه"
قال ابن كثير ـ رحمه الله: "ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام: فمنها: ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله، أو سنة رسوله. ومنها: ما علمنا كذبه، بما دل على خلافه من الكتاب والسنة ـ أيضا. ومنها: ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته، بقوله عليه السلام: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. وهو الذي لا يصدق ولا يكذب، لقوله: فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" انتهى.
وبذلك يتضح أن هناك قسما من أخبار أهل الكتاب قد سكت عنه القرآن الكريم ، فلا نستطيع الحكم عليه بالنفي أو الإثبات ، "وهذا القسم غالبه مما ليس فيه فائدة تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا اختلافاً كثيراً، ويأتي عن المفسِّرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين بعض البقرة الذى ضُرِب به قتيل بنى إسرائيل، ونوع الشجرة التي كلِّم الله منها موسى.. إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن ولا فائدة في تعيينه تعود على المكلَّفين في دنياهم أو دينهم" (التفسير والمفسرون)
قال ابن تيمية:" وأهل الكتاب معهم حق في الخبريات والطلبيات ، ومعهم باطل ، وهو ما بدلوه في الخبريات ، سواء كان المبدل هو اللفظ أو معناه وما ابتدعوه أو ما نسخ من العمليات ، والمنسوخ الذي تنوعت فيه الشرائع قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والرسل ؛ فإن الذي اتفقت عليه هو الذي لا بد للخلق منه في كل زمان ومكان وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح"
ونظن أنه قد زال الإشكال بما ذكرنا.
وأما بخصوص مقولة: (السنة جاءت مكملة للقرآن) ، فإنما يقصد بها التنبيه على أهمية السنة النبوية ومنزلتها من الدين ؛ فإن الناس لا يستطيعون فهم مراد الله من القرآن على الوجه الصحيح إلا من خلال سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولعل الأفضل أن يقال إن السنة جاءت مبينة للقرآن ؛ تجنبا للألفاظ الموهمة. وراجعي الفتاوى أرقام 40372، 36822 ، 137191
والله أعلم.