الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي حال قيام الجهاد إذا حصل خطأ كالمذكور في السؤال فليس على من قاموا بإطلاق الرصاص فأصابوا أحدا من المسلمين خطأً من قصاص ولا عقوبة، وإنما الكلام في الدية والكفارة، قال ابن قدامة في المغني: الضرب الثاني من الخطإ: وهو أن يقتل في أرض الحرب من يظنه كافرا، ويكون مسلما، ولا خلاف في أن هذا خطأ، لا يوجب قصاصا، لأنه لم يقصد قتل مسلم فأشبه ما لو ظنه صيدا فبان آدميا. اهـ.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: هزم المشركون يوم أحد هزيمة تعرف فيهم، فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فنظر حذيفة بن اليمان فإذا هو بأبيه، فقال: أبي، أبي، قالت: فوالله ما انحجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: غفر الله لكم، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة منها بقية خير حتى لقي الله. رواه البخاري.
وعن محمود بن لبيد قال: اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة يوم أحد ولا يعرفونه فقتلوه، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين. رواه أحمد.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: فيه تعقب على ابن التين حيث قال: إن الراوي سكت في قتل اليمان عما يجب فيه من الدية والكفارة، فإما أن تكون لم تفرض يومئذ، أو اكتفى بعلم السامع. اهـ.
وهذا يدل على وجوب الدية، وظاهره أنها تجب في بيت مال المسلمين لا على المجاهدين الذين باشروا القتل، ويتأكد هذا إذا اشترك جماعة في القتل ولا يعرف عيناً من باشره، وقد رواه الشافعي في الأم من مرسل عروة بن الزبير، وفيه: فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بديته. وأخرجه أبو إسحاق الفزاري في السيرة، عن الأوزاعي، عن الزهري وفيه: فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده. وأخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة، كذلك.
قال الشوكاني: وهذان المرسلان يقويان مرسل عروة المذكور في الباب في دفع أصل الدية، وإن كان حديث عروة يدل على أنه لم يحصل منه صلى الله عليه وسلم إلا مجرد القضاء بالدية، ومرسل الزهري وعكرمة يدلان على أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده. اهـ.
وقد ترجم البخاري على حديث عائشة في كتاب الديات من صحيحه: باب إذا مات في الزحام أو قتل به ـ قال ابن بطال في شرحه: اختلف العلماء فيمن مات في الزحام ولا يدرى من قتله، فقالت طائفة: ديته في بيت المال، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وبه قال إسحاق، وقالت طائفة: ديته على من حضر، هذا قول الحسن البصري والزهري، وفيها قول آخر وهو أن يقال لوليه: ادَّعِ على من شئت، فإذا حلف على أحد بعينه، أو جماعة يمكن أن يكونوا قاتليه في الجمع، حلف واستحق على عواقلهم الدية في ثلاث سنين، هذا قول الشافعي، وقال مالك: دمه هدر، ووجه قول من قال: إنه في بيت المال، أنا قد أيقنا أن من مات من فعل قوم مسلمين ولم يتعين من قتله، فحسن أن يودى من بيت المال، لأن بيت مالهم كالعاقلة، ووجه قول من قال: إن ديته على من حضر، أنا قد أيقنا أن من فعلهم مات فوجب أن لا يتعدى ذلك إلى غيرهم وحديث هذا الباب أشبه بهذا القول من غيره، لأن حذيفة قال: غفر الله لكم ـ فدل أنه لم يغفر لهم إلا ما له مطالبتهم به، ألا ترى قوله: فلم يزل في حذيفة منها بقية خير ـ يريد أنها ظهرت عليه بركة ذلك العفو عنهم، ووجه قول الشافعي: أن الدماء والأموال لا تجب إلا بالطلب، فإذا ادعى أولياء المقتول على قوم وأتوا بما يوجب القسامة حلفوا واستحقوا، ووجه قول مالك: أنه لما لم يعلم قاتله بعينه علم يقين استحال أن يؤخذ أحد فيه بالظن، فيوجب أن يهدر دمه اهـ.
وقال الدكتور مرعي الشهري في بحثه: أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله عز وجل في الفقه الإسلامي ـ الذي يتحمل الدية عن المجاهد بيت مال المسلمين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يدي اليمان بعد أن قتله المسلمون وهم لا يعرفونه، فتصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين. اهـ.
وعلى أية حال، فالمسألة فيها كلام طويل، وهي شبيه بمسألة تترس المشركين بأسرى من المسلمين في القتال، وفيها خلاف كثير في وجوب الدية والكفارة، جاء في الموسوعة الفقهية في مسألة التترس: قد عني الفقهاء بهذه المسألة وتناولوها من ناحية جواز الرمي مع التترس بالمسلمين أو الذميين، كما تناولوها من ناحية لزوم الكفارة والدية.. ومن ناحية الكفارة والدية عند إصابة أحد أسرى المسلمين نتيجة رمي الترس، فإن جمهور الحنفية على أن ما أصابوه منهم لا يجب فيه دية ولا كفارة، لأن الجهاد فرض، والغرامات لا تقرن بالفروض، لأن الفرض مأمور به لا محالة، وسبب الغرامات عدوان محض منهي عنه، وبينهما منافاة، فوجوب الضمان يمنع من إقامة الفرض، لأنهم يمتنعون منه خوفا من لزوم الضمان... وعند الحسن بن زياد من الحنفية وجمهور الحنابلة والشافعية تلزم الكفارة، قولا واحدا، وفي وجوب الدية روايتان:
إحداهما: تجب، لأنه قتل مؤمنا خطأ، فيدخل في عموم قوله تعالى: ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا.
الثانية: لا دية، لأنه قتل في دار الحرب برمي مباح، فيدخل في عموم قوله تعالى: وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ـ ولم يذكر دية، وعدم وجوب الدية هو الصحيح عند الحنابلة... اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 110182.
وراجع في بيان الدية والكفارة في قتل الخطأ الفتوى رقم: 1872.
وأما السؤال عن القتلى وهل هم شهداء؟ فجوابه: أنهم إن كانوا خرجوا إعلاءً لكلمة الله، فهم من شهداء الآخرة، قولا واحدا، وأما معاملتهم على أنهم شهداء في الدنيا فلا يغسلون ولا يُصلى عليهم ونحو ذلك: فهذا محل خلاف بين أهل العلم، وقال الدكتور مرعي الشهري في بحثه: إذا قتل خطأ من قبل مسلم فلا يخلو الحال أن يكون قد قتل في غير المعركة، أو في المعركة مع الكفار، فأما إن قتل في غير المعركة فليس بشهيد معركة، فيغسل ويصلى عليه ويكفن، لأن الشهيد كما سبق بيانه: من قتل في المعركة في قتال الكفار، فإن اختل أحد الأمرين فإنه لا يعتبر شهيد معركة، أما إن قتل في المعركة فقد اختلف الفقهاء هل يعتبر شهيد معركة أم لا؟ إلى قولين:
ـ القول الأول: أنه يعتبر شهيد معركة، فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن، وإنما يدفن في ثيابه التي قتل فيها، وهذا قول الشافعية وقول عند المالكية، بناء على أن الشهيد عندهم من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو قتله مسلم يظنه كافرا...
ـ القول الثاني: أنه ليس بشهيد معركة، فيغسل ويكفن ويصلى عليه، وهذا قول الحنفية والحنابلة وقول للمالكية... والقول الأول أقرب إلى الرجحان، لأنه وإن لم يقتله العدو مباشرة، فإن قتالهم سبب في قتله، ولأنه قتل في أرض المعركة مع الكفار فلا يختلف عن غيره من قتلى المعركة من المسلمين. اهـ.
والله أعلم.