السؤال
أنا من مصر ولا يخفى عليكم ما في موقعها ونسيجها المجتمعي من حساسية وجود المسلمين مع الأقباط، وأنا مؤمنة بسماحة الإسلام بلا تفريط في العقيدة، وأعلم تماما حدود الموالاة، كما أعلم أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وعمرو بن العاص فتحا مصر وبها الكنائس ولم يهدماها رغم عقيدة التثليث والصلبان، بل وأعطى أهلها الأمان، كما فعل مع أهل القدس، والسؤال في الآية: 50 من سورة الحج: لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله ـ وبقراءة التفسير المتاح فإن السياق هو بفضل الله ودفعه بعض الناس ببعض يتم منع هدم هذه الأماكن التي يذكر فيها اسم الله، فهل ما يتلى في الكنائس يعد ذكرا لله؟ نعم هم ضالون ويعتقدون خطأ في الله، لكن لا شك أنهم يذكرون لفظ الله ويناجون ربا وإلها ويقولون إنه واحد، ولكن ضلالاتهم تنحرف بهم فيثلثونه، فهل هذه الأماكن بها ذكر الله الذي يستوجب الحرص في التعامل معها؟ وهل هي بيوت لله؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليست الكنائس والبيع بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بيوتا لله، بل هي بيوت للشرك والكفر به سبحانه، وليس ما يتلى فيها من ذكر الله بحال، بل ما يتلى فيها من أعظم ما يسخطه سبحانه، وليس في الآية المذكورة ما يدل على أن هذه البيوت تضاف إلى الله إضافة تشريف كالمساجد، أو أن ما يتلى فيها من ذكر الله سبحانه، فإن معنى الآية ـ كما بينه أهل العلم ـ هو أن الله إنما شرع لعباده الجهاد في سبيله لئلا يتسلط أهل الشرك على أهل الإيمان في كل ملة، فأمر اليهود بالجهاد لئلا يتسلط الكفار على متعبداتهم وكذا النصارى، وقد كانت متعبداتهم تلك بيوتا لله تعالى قبل أن يحرفوا الدين ويغيروا ويكفروا بما أنزل عليهم من ربهم، قال القاسمي رحمه الله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ـ أي لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها. انتهى.
وزاد القرطبي هذا المعنى إيضاحا فقال: أي لولا ما شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ قِتَالِ الْأَعْدَاءِ، لَاسْتَوْلَى أَهْلُ الشِّرْكِ وَعَطَّلُوا مَا بَنَتْهُ أَرْبَابُ الدِّيَانَاتِ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّهُ دَفَعَ بِأَنْ أَوْجَبَ الْقِتَالَ لِيَتَفَرَّغَ أَهْلُ الدِّينِ لِلْعِبَادَةِ، فَالْجِهَادُ أَمْرٌ مُتَقَدِّمٌ فِي الْأُمَمِ، وَبِهِ صَلَحَتِ الشَّرَائِعُ وَاجْتَمَعَتِ الْمُتَعَبَّدَاتُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أُذِنَ فِي الْقِتَالِ، فَلْيُقَاتِلِ الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ قَوِيَ هَذَا الأمر في القتال بقوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ـ الْآيَةَ، أَيْ لَوْلَا الْقِتَالُ وَالْجِهَادُ لَتَغَلَّبَ عَلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، فَمَنِ اسْتَبْشَعَ مِنَ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ الْجِهَادَ فَهُوَ مُنَاقِضٌ لِمَذْهَبِهِ، إِذْ لَوْلَا الْقِتَالُ لَمَا بَقِيَ الدِّينُ الَّذِي يُذَبُّ عَنْهُ، وَأَيْضًا هَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي اتُّخِذَتْ قَبْلَ تَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ، وَقَبْلَ نَسْخِ تِلْكَ الْمِلَلِ بِالْإِسْلَامِ إِنَّمَا ذُكِرَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَيْ لَوْلَا هَذَا الدَّفْعُ لَهُدِّمَ فِي زَمَنِ مُوسَى الْكَنَائِسُ، وَفِي زَمَنِ عِيسَى الصَّوَامِعُ وَالْبِيَعُ، وَفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَسَاجِدُ. انتهى.
ومن قال بغير هذا القول الذي قررناه في تفسير الآية فإنه لا يلزم من قوله أن تكون هذه الكنائس بيوتا لله، فهذا ما لا يقوله مسلم فضلا عن عالم، قال في كشاف القناع: وقال الشيخ ـ يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ من اعتقد أن الكنائس بيوت الله وأن الله يعبد فيها، وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه، فهو كافر، لأنه يتضمن اعتقاد صحة دينهم، وذلك كفر. انتهى.
فالمسلمون يعتقدون أن هذه البيوت بيوت للشيطان يكفر فيها بالله تعالى ويعصى فيها أبلغ المعصية، وليس هذا بمانعنا من الوفاء للقوم بعهدهم ما وفوا لنا، فإذا أعطيناهم الذمة وأقررناهم على متعبداتهم تلك لم يجز التعرض لها كما هو معلوم مقرر في موضعه، فلا يجوز لمسلم أن يتعدى حدود الله تعالى في معاملة أهل الذمة.
والله أعلم.