السؤال
أريد الخلاص من الشهوات فكيف وما السبيل إلى ذلك . افيدوني؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالمسلم ليس مطالبا بالتخلص من شهواته والقضاء عليها، فإن الله تعالى إنما أوجدها فيه وركبها في طبيعته لحكمة بالغة، فإن بقاء نفس الإنسان وبقاء نوعه منوط بأخذه من تلك الشهوات بنصيب، وإنما المطلوب من المكلف هو أن يعدل تلك الشهوات والقوى المركبة فيه بحيث لا يتعدى بها ما أذن فيه الشرع المطهر.
قال ابن القيم رحمه الله: الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحث لها لما يريده كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا ولا مدحه مطلقا، كما أن الغضب لا يذم مطلقا ولا يحمد مطلقا وإنما يذم المفرط من النوعين وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار. انتهى.
ومما يعين على تعديل تلك الشهوات وعدم الخروج بها عن الحد المأذون فيه أن يكون للمرء عقل يزجره عن اتباع شهوة عاجلة تورث غما عاجلا وآجلا، فكم من أكلة منعت أكلات ولذة أورثت تبعات، وهذا العقل الذي يميز الإنسان به بين ما ينفعه وما يضره هو الذي فضله الله به فمايز البهائم.
يقول ابن الجوزي: وبهذا القدر فضل الآدمي على البهائم أعني ملكة الإرادة لأن البهائم واقفة مع طباعها لا نظر لها إلى عاقبة ولا فكر في مآل فهي تتناول ما يدعوها إليه الطبع من الغذاء إذا حضر، وتفعل ما تحتاج إليه من الروث والبول أي وقت اتفق، والآدمي يمتنع عن ذلك بقهر عقله لطبعه. انتهى.
ومما يعين على ذلك إدمان الفكر في الآخرة وما أعد فيها من الثواب الجزيل لمن خالفوا شهواتهم ولم يتبعوا أهواءهم وخافوا مقام ربهم تعالى، واستحضره عظمته وأسماءه وصفاته وأنه مطلع عليهم محيط بهم، فلم يكونوا حيث يكره ولم يفقدوا حيث يحب تبارك وتعالى، وما أعد فيها من العذاب والنكال لمن كان على الضد من ذلك فاتبع هواه وكان أمره فرطا واستجاب لداعي شهواته ولم يتأهب لذلك الموقف العصيب والهول الشديد. ومما يعين على ذلك الفكرة الدائمة في تبعات اتباع الهوى والشهوات وأن ذلك يفضي بصاحبه إلى الهلكات فضلا عن قلة حظه من الالتذاذ بتلك الشهوات كما عبر عن ذلك ابن الجوزي رحمه الله فقال: وليعلم العاقل أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذونها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها لأنها قد صارت عندهم كالعيش الاضطراري، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بذلك عشر التذاذ من لم يدمن غير أن العادة تقتضيه ذلك فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما يقتضيه تعوده ولو زال رين الهوى عن بصر بصيرته لرأى أنه قد شقي من حيث قدر السعادة، واغتم من حيث ظن الفرح، وألم من حيث أراد اللذة
فهو كالحيوان المخدوع بحب الفخ لا هو نال ما خدع به ولا أطاق التخلص مما وقع فيه. انتهى.
وقال رحمه الله في بيان علاج اتباع الهوى والشهوات: والثاني أن يفكر في عواقب الهوى
فكم قد أفات من فضيلة وكم قد أوقع في رذيلة، وكم من مطعم قد أوقع في مرض، وكم من زلة أوجبت انكسار جاه وقبح ذكر مع إثم. غير أن صاحب الهوى لا يرى إلا الهوى فأقرب الأشياء شبها به من في المدبغة فإنه لا يجد ريحها حتى يخرج فيعلم أين كان. انتهى.
ومما يعين على ذلك مجاهدة للنفس وحمل صادق عليها حتى تتأدب بأدب الشرع ولا تطمح إلى ما يسخط الرب، والله قد وعد من جاهد نفسه بالمعونة وهداية السبيل وهو تعالى لا يخلف الميعاد. والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين. وفي الحديث: أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله. أخرجه الديلمي وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة.
ومما يعين على ذلك أيضا الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه والاجتهاد في دعائه والإنابة إليه فإن القلوب بين أصبعين من أصابعه تعالى يقلبها كيف يشاء، فإن لم يتفضل على العبد بالمعونة على دفع هواه وتعديل شهواته لم يكن له على ذلك قدرة. وقد قال عز وجل: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده.
ولابن الجوزي كتاب نافع في ذم الهوى، وفصول في صيد الخاطر حسنة لا يستغنى عنها، ولابن القيم في آخر روضة المحبين فصل حسن في ذم الهوى وكيفية علاجه والتغلب عليه. فمن أراد المزيد فليرجع إلى ما ذكر.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني