الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنقول للسائل: ارفق بنفسك، واعرف لأهل العلم قدرهم، واكتف بالسؤال دون إساءة إليهم، واعلم أن الإنسان عدو ما يجهل، فإذا وُفق وسُدد سأل وتعلم قبل أن يستنكر.
فأما معنى خلق السموات والأرض بالحق، فقال ابن الجوزي: فيه أربعة أقوال، أحدها: خلقهما للحق. والثاني: خلقهما حقا. والثالث: خلقهما بكلامه وهو الحق. والرابع: خلقهما بالحكمة. اهـ.
وقال الطاهر بن عاشور: الحق ضد الباطل، فالباطل اسم لضد ما يسمى به الحق، فيطلق الحق إطلاقا شائعا على الفعل أو القول الذي هو عدل وإعطاء المستحق ما يستحقه، وهو حينئذ مرادف العدل ويقابله الباطل فيرادف الجور والظلم، ويطلق الحق على الفعل أو القول السديد الصالح البالغ حد الإتقان والصواب، ويرادف الحكمة والحقيقة، ويقابله الباطل فيرادف العبث واللعب. والحق في هذه الآية بالمعنى الثاني، كما في قوله تعالى: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {الدخان: 39} بعد قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ {الدخان: 38} وكقوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا {آل عمران: 191}. فالله تعالى أخرج السماوات والأرض وما فيهن من العدم إلى الوجود لحكم عظيمة، وأودع في جميع المخلوقات قوى وخصائص تصدر بسببها الآثار المخلوقة هي لها، ورتبها على نظم عجيبة تحفظ أنواعها وتبرز ما خلقت لأجله. اهـ.
وقال البغوي: قيل: الباء بمعنى اللام، أي: إظهارا للحق لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته. اهـ. وقال ابن كثير: {بِالْحَقِّ} أي: بالعدل. اهـ. وقال السعدي: {بالحق} ليأمر العباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم. اهـ.
وهذه الأقوال كلها حق ولا تعارض بينها. ومنها يتبين جواب قول السائل: لو فرضنا أن الله لم يخلق شيئا، هل سيفرق شيء ؟ فهذا الخلق الذي اقتضت وجودَه حكمةُ الله تعالى، لو كان لم يخلق لضاعت آثار هذه الحكمة. وأما الله تعالى في ذاته فهو الغني الحميد سبحانه، ولكن آثار صفاته لم تكن لتظهر إلا بخلق الخلق، قد سبق الكلام عن الحكمة من خلق العباد مع غنى الله عنهم، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 723، 5492، 114255، 44950، 69481، 113166، 33718.
وأما قول السائل: هناك مفسرون يفسرون القرآن ويذكرون أمورا غيبية، ونحن نأخذ هذه التفاسير وكأنها وحي منزل !! فهي تهمة غير صحيحة وأهل العلم يفرقون بين كلام الله تعالى الذي هو حق محض، وبين تفسيرنا وفهمنا نحن لكلام الله، الذي قد يصيب وقد يخطئ، وقد يُقبل وقد يُرد.
وأما الأمور الغيبية فلا يقبل فيها قول أحد إلا بدليل من الوحي المعصوم، وهذه طريقة المحققين من أهل العلم، ولكن السائل نفسه هداه الله لا يفرق بين كلام المفسرين الذي هو من عند أنفسهم، فهماً فهموه، أو رأيا وظناً ظنوه، وبين ما ذكروه اعتماداً على وحي نقلوه، كتاباً كان أو سنةً، فإن السنة وحي معصوم كما هو معلوم. ومن ذلك ما نسبه للحافظ ابن كثير، فإنه رحمه الله لم يقل ذلك من قبل نفسه ورأيه، وإنما ساق من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وذلك في تفسيره لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا {الإسراء: 15} فقد قطع رحمه الله أن الله تعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه، وفصَّل في ذلك ثم قال: بقي هاهنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديمًا وحديثًا، وهي: الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار، ماذا حكمهم؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف، ومن مات في الفَتْرة ولم تبلغه الدعوة. وقد ورد في شأنهم أحاديث إنا ذاكرها لك بعون الله وتوفيقه، ثم نذكر فصلا ملخصًا من كلام الأئمة في ذلك. اهـ.
ثم سرد رحمه الله عشرة أحاديث بأسانيدها، ثم ذكر خلاف أهل العلم في المسألة، وختمها بقوله: ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العَرَصَات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة، وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في "كتاب الاعتقاد" وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد. اهـ.
ثم ذكر رحمه الله بعض المعارضات والإيرادات على هذا القول، وأجاب عنها نقلا وعقلا. فهل بعد هذا النهج السديد من تحقيق، وهل هناك منهج علمي أعلى من ذلك.
ولا ندري كيف يذكر ابن كثير بمثل ما ذكره السائل، بعد هذا التحقيق العلمي المتين، المعتمد على الرواية والدراية.
وقريب من هذا أيضا كلام السائل عن تفسير الويل بواد في جهنم، فإن ذلك قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره. رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث ابن لهيعة. اهـ.
وهذا الحديث ذكره ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة البقرة بإسناد ابن أبي حاتم وإسناد الترمذي، ثم قال: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعًا: منكر. اهـ.
فتبين أن ابن كثير لم يصحح الحديث بل حكم عليه بالنكارة، ولذلك لم يعتمد عليه في التفسير بل قال: الويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة. اهـ.
وقال في تفسير سورة المرسلات عند قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ: أي ويل لهم من عذاب الله غدا. وقد قدمنا في الحديث أن ويل: واد في جهنم. ولا يصح. اهـ.
وأما غير ابن كثير ممن قال بهذا التفسير فحجته الرواية، وإن كان الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع ورود ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: ويل واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير قال: الويل واد من فيح في جهنم. وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عطاء بن يسار قال: ويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت من شدة حره. وأخرج هناد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ويل سيل من صديد في أصل جهنم. وفي لفظ: ويل واد في جهنم يسيل فيه صديده. اهـ.
والله أعلم.