الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالذي نوصيكم به ونرشدكم إليه أولا هو أن تجتهدوا في تحبيب السنة واتباعها إلى أهل قريتكم، واجعلوا أكبر جهدكم منصبا على تعريفهم مقدار السنة وشرف اتباعها، وأن تبينوا لهم أن الله تعالى لم يتعبد المسلمين باتباع أحد كائنا من كان سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. {آل عمران:31}. وأن التعصب للأئمة وإن عظمت أقدارهم من الأمور المذمومة فإن الله تعالى لن يسأل الناس يوم القيامة عن إجابتهم لفلان أو فلان وإنما سيسألهم عما أجابوا به النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. {القصص:65}.
وقد كان هذا هو شعار الأئمة جميعا، الدعوة إلى اتباع السنة وإن خالفت أقوالهم، وعدم جواز تقديم شيء عليها إذا وضحت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. {الحجرات:1}.
والإمام مالك رحمه الله من أجل أئمة الإسلام، وقد قيل فيه: إذا ذكرت السنن فمالك النجم. وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصيها هذه الأسطر، ولكنه كغيره من الأئمة قد يخالف قوله شيئا من السنة الثابتة وهو في مخالفتها معذور، فإن أحدا من الأئمة المشهود لهم لا يتعمد مخالفة السنة بعد بلوغها له كما حرر ذلك شيخ الإسلام أحسن تحرير في رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
فقد لا تكون السنة قد بلغت هذا الإمام فخالفها لذلك، أو قد تكون بلغته بطريق لا يثبت عنده، أو تكون ثبتت عنده وعارضها عنده معارض أرجح منها، أو اعتقد نسخها، أو نحو ذلك، وبالجملة فهو وإن كان معذورا بلا شك في مخالفته فليس من بلغته السنة على وجه تقوم به الحجة معذورا في تركها لقول أحد من الناس، ولله در مالك إمام دار الهجرة، وقد انتشرت عنه من الكلمات في الحث على المتابعة ونبذ التقليد والتعصب ما صار نبراسا للمتبعين وحجة على المقلدين المتعصبين، ومالك هو القائل: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.
فإذا اقتنع أهل قريتك بهذا المبدأ الذي تدعوهم إليه فإن الأمر يسير، فما هو إلا أن تذكر الأحاديث الصحيحة الدالة على السنة التي تريد دعوتهم إليها فيتبعونها إن شاء الله وإن خالفت قول متبوعهم أو مقلدهم لاعتقادهم أن النجاة في الاعتصام بالسنة والعض عليها بالنواجذ.
واعلم أن الرواية قد اختلفت عن مالك في رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه، فروى عنه ابن القاسم عدم الرفع وروى غيره الرفع.
قال ابن عبد البر في الاستذكار بعد ذكر رواية ابن القاسم: وروى أبو مصعب وبن وهب عن مالك أنه كان يرفع يديه إذا أحرم وإذا ركع وإذا رفع من الركوع على حديث ابن عمر. وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك عن مالك في التمهيد.
ورواه أيضا عن مالك الوليد بن مسلم وسعيد بن أبي مريم وقال بن عبد الحكم: لم يرو أحد عن مالك مثل رواية ابن القاسم في رفع اليدين.
قال محمد –أي ابن عبد الحكم- والذي آخذ به أن أرفع على حديث ابن عمر. انتهى.
فإذا كان الأمر كذلك فالأخذ برواية الجماعة الذين رووا عن مالك ما يوافق السنة وهو اختيار جماعة من كبار المالكية كابن عبد الحكم أولى من الأخذ برواية ابن القاسم.
وأما دعاء الاستفتاح والتعوذ والبسملة عند قراءة الفاتحة فليس ذلك سنة عند مالك، وإنما لم يره سنة لرواية من روى من الصحابة كعائشة أنه كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ومذهب الجمهور مشروعية دعاء الاستفتاح وأنه سنة وهو الراجح، وكذا مذهبهم قراءة البسملة قبل الفاتحة، وعدها الشافعي آية منها، ومن ثم فلا ينبغي تركها خروجا من خلاف من أبطل الصلاة بتركها.
قال ابن جزي الغرناطي في بيان مذهب مالك فيما ذكر: لا يقدم قبل القراءة دعاءا ولا توجها –أي استفتاحا- خلافا للشافعي في تقديم ( ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ) ) الخ، وخلافا لأبي حنيفة في تقديم ( سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ) ولا تعوذا خلافا لهم، ولا يبسمل سرا ولا جهرا خلافا للشافعي في البسملة سرا مع السر وجهرا مع الجهر، ولأبي حنيفة في البسملة سرا على كل حال. ولا بأس بالبسملة في التطوع عند الأربعة، وليست البسملة آية من الفاتحة ولا من غيرها سوى النمل خلافا للشافعي. انتهى.
ومذهب المالكية أن القنوت في صلاة الصبح سرا سنة وهو قبل الركوع أفضل.
قال في إرشاد السالك في بيان سنن الصلاة: والقنوت في ثانية الصبح سرا وقبل الركوع أفضل. انتهى.
والقنوت في الصبح مسألة مختلف فيها بين العلماء والخلاف فيها مشهور معروف، وممن رأى سنية القنوت فيها الشافعي رحمه الله، وقال الإمام أحمد حين سئل عن القنوت في صلاة الصبح: لا يعجبني وإن قنت إمامك فاقنت معه.
فدل على أن الأمر فيه نوع سعة، وأن التشديد في مثل هذه المسائل مما لا ينبغي، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 18064،22151، 1599، 59882.
ومذهب المالكية في التسليم أن المشروع للإمام والفذ تسليمة واحدة، وأن لفظ التسليم هو السلام عليكم، وفي جواز زيادة ورحمة الله خلاف بينهم، وينبغي ألا يعدل عن القول بالجواز والمشروعية لثبوت السنة به. قال في مواهب الجليل: قال الشيخ زروق في شرح القرطبية وقوله: ورحمة الله, كلمة خارجة عن الصلاة لا تضر فيها, لكن ظاهر كلام أهل المذهب أنها ليست بسنة, وإن ثبت بها الحديث إذ ليس مما عمل به أهل المدينة كالتسليم ثانية للفذ والإمام. انتهى.
وقال في شرح الإرشاد: وحكى الجزولي في زيادة ورحمة الله الجواز ولم يعزه. انتهى.
وبالجملة فصلاة من ترك دعاء الاستفتاح، أو اقتصر على تسليمة واحدة، أو دعا دعاء القنوت صحيحة اتفاقا. وصلاة من ترك البسملة في الفاتحة صحيحة عند الجمهور، فعليكم أن ترفقوا بالناس في تعليمهم وتبصيرهم بالسنة وأن تلينوا لهم في ذلك، وأن تظهروا تعظيمكم للإمام مالك رحمه الله وهو خليق بذلك، وأنكم لا تخالفونه إلا لقول من هو مثله من أئمة الإسلام المتبوعين.
والله أعلم.