الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دفع شبهات من يبيح الاختلاط

السؤال

في حديث فاطمة بنت قيس في الصحيحين: "فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ, ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي, اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى, تَضَعِينَ ثِيَابَكَ, فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي. قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ... إلخ" يستدل بهذا طائفة على جواز الاختلاط وذلك من وجهين:1- أن الصحابة يغشون بيت أم شريك، والقول بأنها كبيرة في السن ليس بحجة فحديث المنع في الدخول على النساء عام، وهذا الحديث إما أن نقول بأنه ناسخ له وهو يحتاج لمعرفة زمن كلا الحديثين والأقوى منه بأنه صارف للتحريم المذكور بالنهي على الدخول على النساء للكراهة وبيان أن الدخول عليهم للجواز.2- أن فاطمة اعتدت في بيت ابن أم مكتوم وهذا فيه جواز الاختلاط إن لم نقل بالخلوة، فكيف يرد عليهم؟ وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فليس الحديث الذي ذكرته منسوخاً، ولا الدخول على النساء جائزاً هكذا على إطلاقه كما يظن البعض، وبالرجوع إلى كلام أهل العلم في شرح هذا الحديث تتجلى الحقيقة ويتضح الحكم الشرعي إن شاء الله، فأما عن اعتداد فاطمة بنت قيس في بيت ابن أم مكتوم فإنما كان للضرورة، لأن زوجها طلقها ثلاثاً وتخشى أن يقتحم عليها، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت: يا رسول الله زوجي طلقني ثلاثاً، وأخاف أن يقتحم علي، قال: فأمرها فتحولت.

فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن على فاطمة من الاعتداد عند أم شريك حرجاً من حيث إنه يلزمها التحفظ من نظرهم إليها ونظرها إليهم وانكشاف شيء منها، وفي التحفظ من هذا مع كثرة دخولهم وترددهم مشقة ظاهرة، فأمرها بالاعتداد عند ابن أم مكتوم لأنه لا يبصرها ولا يتردد إلى بيته من يتردد إلى بيت أم شريك... كذا قال النووي في شرح مسلم وقال أيضاً: وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه، بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها، وهي مأمورة بغض بصرها فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة؛ بخلاف مكثها في بيت أم شريك. انتهى.

وبهذا يعلم أن اعتدادها في بيت ابن أم مكتوم هو من باب ارتكاب أخف الضررين، وأن هذه قضية معينة تحكمها الحاجة فلا يقاس عليها غيرها بدون مراعاة لاختلاف الأحوال والظروف.

وأما دخول الصحابة على أم شريك رضي الله عنها فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: معنى هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون أم شريك ويكثرون التردد إليها لصلاحها. انتهى. وقال أيضاً في عد فوائد الحديث: السادسة: استحباب زيارة النساء الصالحات للرجال بحيث لا تقع خلوة محرمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في أم شريك: (تلك امرأة يغشاها أصحابي). انتهى.

وليس في ذلك أي اشكال إذ أن القاعدة عند العلماء أن ما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وهنا لا شك من وجود مصلحة في هذه الزيارة وهي من أناس فضلاء ثقات مشهود لهم بالخيرية والورع والإيمان لامرأة هي كذلك، ومع وجود المصلحة المعتبرة ومع أمن الخلوة والفتنة ينتفي القول بحرمة الاختلاط... وأين ذلك مما يريد دعاة الإباحية والاختلاط المعاصر تقريره والاحتجاج له؟ وهل يقيس عاقل هذه الحالة على من شأنهن التبرج والسفور وارتكاب الفواحش واستدراج النساء للمنكر وعدم الغيرة على محارم الله وعدم حفظ حدوده؟!

وما أحسن ما أجاب به ابن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي لما سئل -كما في الفتاوى الفقهية الكبرى- عن النظر للأمرد هل يجوز لحاجة تعليم العلوم الشرعية فإذا قلتم بالجواز فالتعفف عن ذلك والحاجة ماسة إلى التعلم مباح أو مكروه، وهل يندب له ترك ذلك التعفف لأن الصورة أنه لا محذور هنا أم لا؟ (فأجاب) بقوله : يجوز نظر الأمرد لتعليم العلوم الشرعية والصنائع المحتاج إليها، وليس من الورع ترك التعليم وإن احتيج معه إلى نظر لا محذور يخشى منه، فقد كان أئمة السلف والخلف رضوان الله تعالى عليهم يخالطون المرد للتعليم ومع ذلك كانوا يسمونهم الأنتان ويقولون إن فتنتهم أشد من فتنة النساء.

فحيث خشي من مخالطتهم سواء كان اجتنابهم إما واجباً أو مندوباً ما لم ينحصر التعليم في شخص فإنه يتعين عليه، وحيث لم يخش من ذلك شيء كان تعليمهم قربة أي قربة، وكان الورع فعله لا تركه، والمدار على ما في القلب وما تشهد به قرائن أحوال النفس. انتهى.

ومن هذا الباب ما فعله عمر من نفي من خشي على النساء الفتنة به، جاء في الفروع لابن مفلح الحنبلي: ولا تقف السياسة على ما نطق به الشرع، إذ الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم قد قتلوا ومثلوا وحرقوا المصاحف، ونفى عمر نصر بن حجاج خوف فتنة النساء. انتهى.

فكيف يقال بعد ذلك بإطلاق القول بجواز الاختلاط؟ فالحاصل أن العبرة إنما هي بخشية الافتتان أو وجود مظنة ذلك لأن تحريم الاختلاط بالأمرد وبالنساء ليس محرماً لذاته وإنما سداً لذريعة الفتنة بهؤلاء، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ {النور:21}، ومن خطوات الشيطان التي يستدرج بها العبد: الاختلاط، فالواجب الحذر من ذلك، وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ، فرآهم فكره ذلك، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم أر إلا خيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد برأها من ذلك، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان. قال النووي في شرح الحديث المذكور: ثم إن ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية، والمشهور عند أصحابنا تحريمه، فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك، وقد أشار القاضي إلى نحو هذا التأويل. انتهى.

وفي تفسير النووي هذا للحديث بيان للفرق بين الاختلاط المذموم والجائز، فالاختلاط المذموم هو ما كان فيه اجتماع بين رجال ونساء أجنبيات عليهم من غير أن تدعو الحاجة إليه، أو أن يكون فيه خضوع بالقول أو انكشاف للعورات أو نحو ذلك مما لا يحل، ومن ذلك ما يقع في الجامعات والنوادي كاختلاط الفتيات والفتيان في فصل واحد من غير أن يكون ثمة حاجز أمر لا شك أنه محرم شرعاً، وأما الجائز فنحو ما ورد عن الصحابة، وبهذا يمكن الجمع بين الأدلة الواردة في هذا الموضوع.

والنصوص الشرعية في التحذير من فتنة النساء كثيرة، فقد أخرج الشيخان من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد.

وجاء في شرح ابن بطال: وفي حديث أسامة أن فتنة النساء أعظم الفتن مخافة على العباد، لأنه عليه السلام عمم جميع الفتن بقوله: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء. ويشهد لصحة هذا الحديث قول الله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ. فقدم النساء على جميع الشهوات، وقد روي عن بعض أمهات المؤمنين أنها قالت: من شقائنا قدمنا على جميع الشهوات.

فالمحنة بالنساء أعظم المحن على قدر الفتنة بهن، وقد أخبر الله مع ذلك أن منهن لنا عدواً، فينبغي للمؤمن الاعتصام بالله، والرغبة إليه في النجاة من فتنتهن، والسلامة من شرهن، وقد روي في الحديث أنه لما خلق الله المرأة فرح الشيطان فرحاً عظيماً، وقال: هذه حبالتي التي لا يكاد يخطئني من نصبتها له. انتهى.

ومن طلب السلامة في دينه بل ودنياه وأراد النجاة من فتنة النساء فعليه بالبعد عنهن ما أمكنه، وأما من تساهل فإنه ولا شك سيفتتن بهن فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور بعد وقوعه ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه، وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك، كما أفاد شيخ الإسلام وغيره. وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية مع إحالاتها: 43239، 15176، 48092، 8528، 50794.

وقد سبقت فتاوى كثيرة في بيان ذلك فراجع منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 5310، 3539، 19233، 5666، 63091.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني