الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا أجد من يعينني على الالتزام والثبات على التوبة، فماذا أفعل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله

أريد أن ألتزم، وأحافظ على الصلاة، وأريد أن أحفظ القرآن، وأن أقوم الليل، ولكن عملي صعب، إذ أني أكون خارج المنزل 12 ساعة، وأرجع مرهقاً ومتعباً جداً، ولا يكون عندي طاقة لفعل أي شيء، حتى إني أحياناً أكسل عن الصلاة المكتوبة، وأعيش في لوم، وعتاب شديد مع نفسي، وفي أوقات أيأس وأقول: لن يغفر الله لي على هذا التفريط، والعمر يجري، ولم أحصل شيئاً من ديني، ولا أريد أن أموت على هذا، وأكثر الناس لا يعينونني على الالتزام، بل أكثرهم يعينني على الفسق، حتى أصبحت الطاعة ثقيلة جداً، وأكره أن أموت على هذا الحال.

سمعت كثيراً من الشيوخ، فأصدق في الاستعانة بالله، ثم أسير على ذلك لمدة شهر أو شهرين، ولكن أنتكس مرة أخرى، هل هذا لأني غير صادق في توبتي وفي استعانتي بالله؟ أنا أحب السلف الصالح، وأحب عبادتهم وصدقهم، وورعهم، ولكن عندما أسمع عنهم أقول: هذا بعيد جداً عني، كيف أحقق هذا؟ هل كانوا لا ينامون؟ كيف كان همهم في عبادة الله وطاعته وتحصيل العلم؟

هل هذا حالي؟ وهل ما أنا فيه من عدم توفيق بسبب شؤم المعاصي التي ارتكبتها؟ لذلك أنا غير موفق في التوبة، وأنتكس كل مرة، وأحاول.

في الواقع أنا أحاول التوبة منذ أكثر من 10 سنوات، وأصحابي شيوخ، وأمشي معهم، وسرعان ما أترك كل هذا فجأة، وأذهب وأعصي وأرجع عن التوبة، ثم بعد مدة تحدثني نفسي للرجوع مرة أخرى، فأرجع وأتوب فترة، ثم أترك كل هذا وأعود إلى المعاصي، وهكذا منذ كنت بعمر 20 سنة، والآن أنا بعمر 30 سنة، وقد بلغت نصف العمر -كما يقول عنه البعض-، ولم أحصل على شيء، وأخاف أن أموت وأنا هكذا، وأخاف أن أموت ولم أتب، ولم أحصل على شيء.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الرحمن حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحباً بك -أخي الفاضل- في استشارات إسلام ويب، واعلم أخي -وفقك الله- أن وجود الرغبة في إصلاح النفس وتهذيبها يعد بحد ذاته خيراً يسوقه الله لك، فوجود الرغبة هي أول خطوات التغيير، والتوبة إلى الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الندم توبة).

همتك العالية في التشبه بالسلف الصالح، والإكثار من الأعمال الصالحة أمر حسن بلا شك، ولكن ينبغي أن تدرك أن الحرص على النوافل وفضائل الأعمال لا ينبغي أن يكون على حساب الفرائض، ففي الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه..) رواه البخاري، فالفرائض أولاً قبل أي شيء، ثم النوافل بعدها.

كذلك -أخي العزيز- ينبغي أن تعلم أن بلوغ الغايات وتحقيق التزكية للنفس، والاستقامة على طاعة الله تحتاج إلى مجاهدة وصبر، ومع المجاهدة والصبر ستبلغ -بعون الله- الغاية، يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

عليك بالتوبة من التقصير في الفرائض أولاً، ثم ضع لنفسك هدفاً في طاعة الله تعالى، يعتمد على التدرج في بناء النفس، والتخلي عن فعل المعاصي، والمداومة على الطاعات، وحتى تحقق ذلك ننصحك بمجموعة من الأمور:

أولاً: عليك بالتدرج مع الصبر، فلا تثقل على النفس بكثير الأعمال حتى لا تمل أو تتعب، ولكن تدرج قليلاً قليلاً، لتعتاد النفس وتستعد، فالتشديد على النفس قد يسبب نتائج عكسية.

ثانياً: المداومة على القليل أحب إلى الله من الكثير المنقطع، وهذا ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله الصحابة: (أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل).

ثالثاً: عليك بما تطيق من الأعمال، فكثير من الناس بسبب الاندفاع والرغبة في تعويض ما فاته، قد يسلك أعمالاً ترهقه، أو تأخذ وقتاً وجهداً كبيراً منه، وقد بين النبي ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكلَفوا منَ العمَلِ ما تطيقونَ، فإنَّ اللَّهَ لا يملُّ حتَّى تملُّوا، وإنَّ أحبَّ العملِ إلى اللَّهِ أدومُهُ وإن قلَّ، وَكانَ إذا عمِلَ عملًا أثبتَه) فالعبرة بتأثير العمل على القلب، حتى وإن كان يسيراً قليلاً.

رابعاً: عليك بفقه مرونة الشرع، فمن رحمة الله أن جعل الأعمال على مراتب، تتناسب مع جهد الإنسان وفراغه واستطاعته وقدرته، والمسلم يتقلب بين هذه الأحوال في حياته، فينزل من مرتبة إلى أخرى، ثم يعود متى ما وجد في نفسه سعة ونشاطاً، فيتقلب بين العزيمة والرخصة، ولا يشدد على نفسه فتمل، يقول تعالى: (فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) راوه ابن حبان وحسنه الألباني.

خامساً: إقبال النفس وإدبارها، فللنفس ساعات من الأقبال تنشط فيها في الأعمال والتزكية، كمواسم الخيرات، مثل: رمضان وغيره، فعلى المسلم أن يستغل هذا الإقبال ويزيد من همته في الأعمال الصالحة، جاء في الحديث: (لِكُلِّ عملٍ شِرَّةٌ، ولِكُلِّ شرَّةٍ فَترةٌ، فمن كانَت فَترتُهُ إلى سنَّتي، فَقد أفلحَ، ومَن كانت إلى غيرِ ذلِكَ فقد هلَكَ) رواه أحمد، وصححه الألباني.

أخي الكريم: الصحابة والسلف الصالح بشر مثلنا، لهم أعمالهم الخاصة وتجارتهم التي يسترزقون منها، فلم يكونوا متفرغين للعبادة طوال يومهم، كما قد يظن البعض، لكن اختلاف أعباء الحياة ونمط العيش اليوم تنعكس آثاره على حياتنا بلا شك، فالسهر والإكثار من الملهيات تضعف النشاط للطاعات، وتشوش القلب، لذلك عليك بقليل العمل، مع الحرص على الإخلاص فيه والصدق في أدائه.

كما ننصحك أن تجتهد في أعمال القلوب التي أثرها عظيم في النفس، والجهد فيها قليل، ومن أعظمها ذكر الله بحضور القلب، ومداومة الدعاء بضراعة ورغبة، وتدبر معاني ومقاصد القرآن، والتدبر في خلق الله وملكوته، كل هذه الأعمال يتجاهلها الكثير، رغم تأثيرها العميق في تزكية النفس ودفعها للخير.

كذلك ننصحك ببذل الأسباب المادية، فتنظم وقتك، وتجعل لنفسك مهام وأهدافاً يومية، وترافق أصحاب الهمم العالية، وتجالس الصالحين ومن يعينك على الخير.

أخي الكريم: إن الشيطان يقذف في قلبك أن الله لن يقبل توبتك، أو أنك لست مقبولاُ عند الله، فلا تسترسل مع أفكار الشيطان، فكل هذا مما يريد الشيطان أن يوقعك فيه، ليضعف حسن ظنك بالله وبفضله وكرمه، وحتى يصل بك لليأس من رحمة الله، فما دام قلبك معلقاً بالله مجتهداً بالعبادات والقربات قدر الاستطاعة، متجنباً للفواحش والمعاصي والمنكرات، ودائم الذكر لله على كل الأحوال، فهذا خير عظيم أنت فيه، فاحرص على المداومة عليه والزيادة منه.

وفقك الله وسدد أمرك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً