الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3499 [ 1350 ] وعن عبد الله بن عمرو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين" .

                                                                                              رواه مسلم (1886) (120).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول السائل : ( أرأيت إن قتلت في سبيل الله ; أتكفر عني خطاياي ) ; هذا بحكم عمومه يشمل جميع الخطايا ، ما كان من حقوق الله تعالى ، وما كان من حقوق الآدميين . فجوابه بـ (نعم) مطلقا يقتضي تكفير جميع ذلك ، لكن الاستثناء الوارد بعد هذا يبين أن هذا الخبر ليس على عمومه ; وإنما يتناول حقوق الله تعالى خاصة لقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( إلا الدين ) . وذكره الدين تنبيه على ما في معناه من تعلق حقوق الغير بالذمم ، كالغصب ، وأخذ المال بالباطل ، وقتل العمد ، وجراحه ، وغير ذلك من التبعات ، فإن كل هذا أولى بأن لا يغفر بالجهاد من الدين ، لكن هذا كله إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكنه منه ، وأما إذا لم يجد للخروج من ذلك سبيلا ; فالمرجو من كرم الله تعالى إذا صدق في قصده ، وصحت توبته أن يرضي الله تعالى خصومه عنه ، كما قد جاء نصا في حديث أبي سعيد الخدري المشهور في هذا ، وقد دل على صحة ما ذكرناه قوله -صلى الله عليه وسلم- : (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة) ، الحديث ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . ولا يلتفت إلى قول من قال : إن هذا الذي ذكره من الدين إنما كان قبل قوله -صلى الله عليه وسلم- : ( من ترك دينا أو ضياعا فعلي ) ، الحديث ; يشير بذلك إلى أن ذلك المعنى منسوخ . فإنه قول باطل [ ص: 714 ] مفسوخ ; فإن المقصود من هذا الحديث بيان أحكام الديون في الدنيا ، وذلك : أنه كان من أحكامها دوام المطالبة ، وإن كان الإعسار . وقال بعض الرواة : إن الحر كان يباع في الدين. وامتنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة على من مات وعليه دينار ولم يجد وفاء له . فهذه الأحكام وأشباهها هي التي يمكن أن تنسخ ، والحديث الأول لم يتعرض لهذه الأحكام ; وإنما تعرض لمغفرة الذنوب فقط . هذا إذا قلنا : إن هذا ناسخ . فأما إذا حققنا النظر فيه فلا يكون ناسخا ، وإنما غايته : أن تحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- على مقتضى كرم خلقه عن المعسر دينه ، وسد ضيعة الضائع . وقد دل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بعينه : (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ; فعلى هذا يكون هذا التحمل خصوصا به ، أو من جملة تبرعاته لما وسع الله عليه ، وعلى المسلمين . وقد قيل في معنى هذا الحديث : إن معنى ذلك : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام بذلك من مال الخمس والفيء ليبين : أن للغارمين ولأهل الحاجة حقا في بيت مال المسلمين ، وإن الناظر لهم يجب عليه القيام بذلك لهم ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              [ ص: 715 ] وفيه من الفقه : جواز تأخير الاستثناء قدرا قليلا ; لأنه أطلق أولا ، فلما ولى دعاه ، فذكر له الاستثناء ، وقد يجاب عنه : بأنه لما أراد أن يستثني أعاد اللفظ الأول ، ووصل الاستثناء به في الحال ، فلا يجوز التأخير ، ويدل على ذلك : أن الاستثناء والتخصيص وغيرهما الصادرة عنه -صلى الله عليه وسلم- كل من عند الله ، لا من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاجتهاد ، وقد تقدم الاختلاف في هذا الأصل .




                                                                                              الخدمات العلمية