المسألة الثانية عشرة
الأسباب ـ من حيث هي ، وهي المصالح المجتلبة أو المفاسد المستدفعة ، والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان : أسباب شرعية ـ لمسببات إنما شرعت لتحصيل مسبباتها
أحدهما : ما شرعت الأسباب لها ; إما بالقصد الأول ، وهي متعلق المقاصد الأصلية أو المقاصد الأول أيضا ، وإما بالقصد الثاني ، وهي متعلق المقاصد التابعة ، وكلا الضربين مبين في كتاب المقاصد .
[ ص: 383 ] والثاني : ما سوى ذلك مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها أو لم تشرع لها ، فتجيء الأقسام ثلاثة : أحدها : ما يعلم أو يظن أن السبب شرع لأجله ، فتسبب المتسبب فيه صحيح ; لأنه أتى الأمر من بابه ، وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضا في التوسل إليه ; لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا ، ثم يتبعه اتخاذ السكن ، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم ، أو نحو ذلك أو الخدمة أو القيام على مصالحه أو التمتع بما أحل الله من النساء أو التجمل بمال المرأة أو الرغبة في جمالها أو الغبطة بدينها أو التعفف عما حرم الله أو نحو ذلك حسبما دلت عليه الشريعة ، فصار إذا ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة ، وهذا كاف ، وقد تبين في كتاب المقاصد أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح ، فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبب .
لا يقال : إن القصد إلى الانتفاع مجردا لا يغني دون قصد حل البضع بالعقد أولا ; فإنه الذي ينبني عليه ذلك القصد ، والشارع إنما قصده بالعقد أولا [ ص: 384 ] الحل ، ثم يترتب عليه الانتفاع ، فإذا لم يقصد إلا مجرد الانتفاع فقد تخلف قصده عن قصد الشارع ، فيكون مجرد القصد إلى الانتفاع غير صحيح ، ويتبين هذا بما إذا أراد التمتع بفلانة كيف اتفق بحل أو غيره ، فلم يمكنه ذلك إلا بالنكاح المشروع ، وقصده أنه لو أمكنه بالزنا لحصل مقصوده ، فإذا عقد عليها ، والحال هذه فلم يكن قاصدا لحله ، وإذا لم يقصد حلها فقد خالف قصد الشارع بالعقد فكان باطلا ، والحكم في كل فعل أو ترك جار هذا المجرى .
لأنا نقول هو على ما فرض في السؤال صحيح ، وذلك أن حاصل قصد هذا القاصد أنه لم يقدر على ما قصد من وجه غير جائز ، فأتاه من وجه قد جعله الشارع موصلا إليه ، ولم يكن قصده بالعقد أنه ليس بعقد ، بل قصد انعقاد النكاح بإذن من إليه الإذن ، وأدى ما الواجب أن يؤدى فيه ، لكن ملجأ إلى ذلك ، فله بهذا التسبب الجائز مقتضاه ، ويبقى النظر في قصده إلى المحظور الذي لم يقدر عليه ; فإن كان عند عزم على المعصية لو قدر عليها أثم عند المحققين ، وإن كان خاطرا على غير عزيمة ، فمغتفر كسائر الخواطر ، فلم يقترن إذا بالعقد ما يصيره باطلا ; لوقوعه كامل الأركان ، حاصل الشروط ، منتفي الموانع ، وقصد القاصد للعصيان لو قدر عليه خارج عن قصده الاستباحة [ ص: 385 ] بالوجه المقصود للشارع ، وهذا القصد الثاني موجود عنده لا محالة ، وهو موافق لقصد الشارع بوضع السبب ، فصح التسبب ، وأما إلزام قصد الحل فلا يلزم ، بل يكفي القصد إلى إيقاع السبب المشروع ، وإن غفل عن وقوع الحل به ; لأن الحل الناشئ عن السبب ليس بداخل تحت التكليف كما تقدم .
والثاني : ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء ، فالدليل يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح ، لأن السبب لم يشرع أولا لهذا المسبب المفروض ، وإذا لم يشرع له فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة بالنسبة إلى ما قصد بالسبب ، فهو إذا باطل ، هذا وجه .
ووجه ثان : وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع ، فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلا ، وإذا كان التسبب غير المشروع أصلا لا يصح ، فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له .
ووجه ثالث : أن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة أو أن المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبب ، فيصير السبب بالنسبة إليه عبثا ; فإن كان الشارع قد نهى عن ذلك التسبب الخاص ، فالأمر واضح ، فإذا أو بالبيع التوصل إلى الربا مع إبطال البيع ، وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها ، كان هذا العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح والبيع ، وهكذا سائر الأعمال ، والتسببات العادية ، والعبادية . قصد بالنكاح [ ص: 386 ] مثلا التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل
فإن قيل : كيف هذا والناكح في المثال المذكور ؟ وإن كان قصد رفع النكاح بالطلاق لتحل للأول ، فما قصده إلا ثانيا عن قصد النكاح ; لأن الطلاق لا يحصل إلا في ملك نكاح ، فهو قصد نكاحا يرتفع بالطلاق ، والنكاح من شأنه ووضعه الشرعي أن يرتفع بالطلاق ، وهو مباح في نفسه فيصح ، لكن كونه قصد مع ذلك التحليل للأول أمر آخر ، وإن كان مذموما ; فإنه إذا اقترن أمران مفترقان في أنفسهما فلا تأثير لأحدهما في الآخر ; لانفكاك أحدهما من الآخر تحقيقا كالصلاة في الدار المغصوبة .
وفي الفقه ما يدل على هذا : فقد اتفق مالك وأبو حنيفة على صحة والعتق قبل الملك ، فيقول للأجنبية إن تزوجتك ; فأنت طالق ، وللعبد إن اشتريتك فأنت حر ، ويلزمه الطلاق إن تزوج ، والعتق إذا اشترى ، وقد علم أن التعليق في الطلاق قبل النكاح مالكا وأبا حنيفة يبيحان له أن يتزوج المرأة ، وأن يشتري العبد .
وفي " المبسوطة " عن مالك فيمن قال : " أرى له جائزا أن يتزوج ، ولكن إن تزوج طلقت عليه " ، مع أن هذا النكاح ، وهذا الشراء ليس فيهما شيء مما قصده الشارع [ ص: 387 ] بالقصد الأول ، ولا بالقصد الثاني إلا الطلاق ، والعتق ، ولم يشرع النكاح للطلاق ، ولا الشراء للخروج عن اليد ، وإنما شرعا لأمور أخر ، والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة في مشروعيتهما ، فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أو العتق ثان عن حصول النكاح أو الملك ، وعن القصد إليه فالناكح قاصد بنكاحه الطلاق ، والمشتري قاصد بشرائه العتق ، وظاهر هذا القصد المنافاة لقصد الشارع ، ولكنه مع ذلك جائز عند هذين الإمامين ، وإذا كان كذلك ; فأحد الأمرين جائز ; إما جواز التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب ; وإما بطلان هذه المسائل . حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلى ثلاثين سنة ، ثم يخاف العنت
وفي مذهب مالك من هذا كثير جدا ، ففي المدونة فيمن ، أنه ليس من نكاح المتعة ، فإذا تزوج المرأة ليمين لزمته أن يتزوج على امرأته فقد فرضوا المسألة ، وقال نكح وفي نفسه أن يفارق مالك : إن النكاح حلال ; فإن شاء أن يقيم عليه أقام ، وإن شاء أن يفارق فارق ، وقال ابن القاسم : وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا قال : وهو عندنا نكاح ثابت ، الذي يتزوج يريد أن يبر في يمينه ، وهو بمنزلة من ، ولا ينوي ذلك ، على ذلك نيته وإضماره في تزويجها ; فأمرهما واحد ; فإن شاء أن يقيما أقاما ، لأن أصل النكاح حلال ، ذكر هذه في " المبسوطة " . يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها لا يريد حبسها
وفي الكافي في الذي : " أن قول الجمهور جوازه " . يقدم البلدة فيتزوج المرأة ، ومن نيته أن يطلقها بعد السفر
[ ص: 388 ] وذكر ابن العربي مبالغة مالك في ، وأنه لا يجيزه بالنية ، كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة ، وإن لم يلفظ بذلك ، ثم قال : وأجازه سائر العلماء ، ومثل بنكاح المسافرين قال : وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك ; فإنا لو ألزمناه أن ينوي بقلبه النكاح الأبدي لكان نكاحا نصرانيا ، فإذا سلم لفظه لم تضره نيته ، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة رجاء الأدمة ، فإن وجدها وإلا فارق ، كذلك يتزوج على تحصيل العصمة ; فإن اغتبط ارتبط ، وإن كره فارق ، وهذا كلامه في كتاب الناسخ والمنسوخ ، وحكى منع نكاح المتعة اللخمي عن مالك [ فمن نكح لغربة ] أو لهوى ليقضي أربه ، ويفارق فلا بأس .
فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل عليها ، وأشدها مسألة حل اليمين لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيه ، وإنما قصد أن يبر في يمينه ، ولم يشرع النكاح لمثل هذا ، ونظائر ذلك كثيرة ، وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع ، وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولا ، ثم [ ص: 389 ] الفراق ثانيا ، وهما قصدان غير متلازمين ; [ وإلا ] فإن جعلتهما متلازمين في المسألة الأولى بحيث يؤثر أحدهما في الآخر ، فليكن كذلك في هذه المسائل ، وحينئذ يبطل جميع ما تقدم ، فعلى الجملة يلزم إما بطلان هذا كله ، وإما بطلان ما تقدم .
فالجواب من وجهين أحدهما إجمالي ، والآخر تفصيلي .
فأما الإجمالي : فهو أن نقول أصل المسألة صحيح لما تقدم من الأدلة ، وما اعترض به ليس بداخل تحتها ، ولا هي منها بدليل قولهم بالجواز والصحة فيها ، فما اتفقوا منها على جوازه فلسلامته من مقتضى أصل المسألة ، وما اختلفوا فيه فلدخوله عند المانعين تحتها ، ولسلامته عند المجيزين ; لأن العلماء لا يتناقض كلامهم ، ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد إلى غيره سبيل ، وهذا جواب يكفي المقلد في الفقه وأصوله ، ويورد على العالم من باب تحسين الظن بمن تقدم من السلف الصالح ليتوقف ، ويتأمل ، ويلتمس المخرج ، ولا يتعسف بإطلاق الرد .
وأما التفصيلي : فنقول : إن هذه المسائل لا تقدح فيما تقدم ، أما مسألة [ ص: 390 ] التعليق فقد قال القرافي : " إنها من المشكلات على الإمامين ، وإن من قال بشرعية النكاح في صورة التعليق قبل الملك ، فقد التزم المشروعية مع انتفاء الحكمة المعتبرة فيه شرعا " قال : " وكان يلزم أن لا يصح العقد على المرأة ألبتة ، لكن العقد صحيح إجماعا ; فدل على عدم لزوم الطلاق تحصيلا لحكمة العقد ، قال : فحيث أجمعنا على شرعيته دل ذلك على بقاء حكمته ، وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده قال : وهذا موضع مشكل على أصحابنا انتهى قوله .
وهو عاضد لما تقدم ، ولكن النظر فيه راجع إلى أصل آخر ندرجه أثناء هذه المسألة للضرورة إليه ، وهي :