[ ص: 401 ] المسألة الرابعة
. الاعتراض على الظواهر غير مسموع
والدليل عليه أن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع ، ولسان العرب يعدم فيه النص أو يندر ؛ إذ قد تقدم أن النص إنما يكون نصا إذا سلم عن احتمالات عشرة ، وهذا نادر أو معدوم ، فإذا ورد دليل منصوص وهو بلسان العرب ، فالاحتمالات دائرة به ، وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين ، فلم يبق إلا الظاهر والمجمل ، فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف ، فالظاهر هو المعتمد إذا ، فلا يصح الاعتراض عليه ؛ لأنه من التعمق ، والتكلف .
وأيضا ، فلو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يعتمد ؛ لورود الاحتمالات وإن ضعفت ، والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل ، فيؤدي إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها ، وليس كذلك باتفاق .
ووجه ثالث : لو اعتبر مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب [ ص: 402 ] ولا لإرسال النبي - عليه الصلاة والسلام - بذلك فائدة ؛ إذ يلزم ألا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات ؛ إذ ليست في الأكثر نصوصا لا تحتمل غير ما قصد بها ، لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول ، فما يلزم عنه كذلك .
ووجه رابع : وهو أن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها ، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ، ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره عن نفسه في كتابه " المنقذ من الضلال " ، بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم ، فبه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية ، أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية . الغزالي
ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شدد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن لهم إليه حاجة مع ظهور المعنى ، وكذلك ما جاء في الحديث في قوله : " أحجنا هذا لعامنا أو للأبد ؟ " وأشباه ذلك ، بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم ، ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه ، وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل ، فذموا بذلك وأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالحذر منهم .
[ ص: 403 ] ووجه خامس : وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية ، والعمومات المتفق عليها ، كقوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون إلى أن قال : سيقولون لله قل فأنى تسحرون [ المؤمنون : 84 - 89 ] فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم ، وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء .
وقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون [ العنكبوت : 61 ] يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعدما أقروا فيدعون لله شريكا .
وقال تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار إلى قوله : ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ الزمر : 5 - 6 ] وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه ، وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول ، ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم ، لكن الأمر [ ص: 404 ] على خلاف ذلك ، فدل على أنه ليس مما يعترض عليه .
وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات ، وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات ، حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليلا يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا ، بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الاعتقادية ، فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية ، كقوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ الروم : 28 ] .
وقوله : ألهم أرجل يمشون [ الأعراف : 195 ] وأشباه ذلك .
واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهية ، ولا قريبة من البديهية ، هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية ، فدخلوا في أشد مما منه فروا ، ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها ، وهم المخاطبون أولا بالشريعة ، فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم ، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا ، وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود .
وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وأن طرق العقل إليها احتمالا ، فكذلك العبارات ؛ لأنها في الوضع الخطابي تماثلها أو تقاربها .
[ ص: 405 ] ومر أيضا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات ، وهي خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله ، فإذا لا يصح في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة ، إلا أن يدل دليل على الخروج عنها ، فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح ، أو في باب البيان ، والله المستعان .