[ ص: 265 ] المسألة الثالثة عشرة
مبنية على ما قبلها ; فإنه إذا تعين أن العدل في الوسط ; فمأخذ الوسط ربما كان مجهولا ، والإحالة على مجهول لا فائدة فيه ; [ ص: 266 ] والقول في ذلك والله المستعان أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل ، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان ; فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره ، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها ، لا ينظر في أولها دون آخرها ، ولا في آخرها دون أولها ، فإن القضية وإن اشتملت على جمل ; فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد ، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله ، وأوله على آخره ، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف ، فإن فرق النظر في أجزائه ; فلا يتوصل به إلى مراده ، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض ، إلا في موطن واحد ، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه ، لا بحسب مقصود المتكلم ، فإذا صح له الظاهر على العربية ; رجع إلى نفس الكلام ، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد ; فعليه بالتعبد به ، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل ; فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر . فلا بد من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم
غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدا بكل اعتبار ، بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت ، وعليه أكثر سور المفصل ، وتارة يكون متعددا في الاعتبار ، بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة ; كسورة البقرة ، وآل عمران والنساء ، واقرأ باسم ربك ، وأشباهها ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة ، أم نزلت شيئا بعد شيء [ ص: 267 ] ولكن هذا القسم له اعتباران : اعتبار من جهة تعدد القضايا ; فتكون كل قضية مختصة بنظرها ، ومن هنالك يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه ، ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول ; فلا فرق بينهما في التماس العلم والفقه .
واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة ; إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال ، ويشترك معه أيضا القسم الأول ; لأنه نظم ألقي بالوحي ، وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر ، وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز ، وبعض مسائل نبه عليها في المسألة السابقة قبل ، [ ص: 268 ] وجميع ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات ; فاعتبار جهة النظم مثلا في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر ; فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود ، كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها .
فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم ، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها ، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب ، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم ، ومنها ما هو المقصود في الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب ، ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك .
ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام ; فبه يبين ما تقدم ، فقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله : كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون [ البقرة : 183 187 ] كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى ، وحاصله بيان الصيام وأحكامه ، وكيفية آدائه ، وقضائه ، وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبني إلا عليها .
ثم جاء قوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية [ البقرة : 188 ] كلاما آخر بين أحكاما أخر [ ص: 269 ] وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] وانتهى الكلام على قول طائفة ، وعند أخرى أن قوله وليس البر بأن تأتوا البيوت الآية [ البقرة : 189 ] من تمام مسألة الأهلة ، وإن انجر معه شيء آخر ، كما انجر على القولين معا تذكير وتقديم لأحكام الحج في قوله قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] وقوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] نازلة في قضية واحدة ، وسورة اقرأ نازلة في قضيتين الأولى إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 5 ] والأخرى ما بقي إلى آخر السورة .
وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة ، وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات ، ، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى : أحدها : تقرير الوحدانية لله الواحد الحق ، غير أنه يأتي على وجوه ; كنفي [ ص: 270 ] الشريك بإطلاق ، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة ، من كونه مقربا إلى الله زلفى ، أو كونه ولدا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة . وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان
والثاني : تقرير النبوة للنبي محمد ، وأنه رسول الله إليهم جميعا ، صادق فيما جاء به من عند الله ; إلا أنه وارد على وجوه أيضا ; كإثبات كونه رسولا حقا ، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو يعلمه بشر ، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم .
والثالث : إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة ، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به ; فرد بكل وجه يلزم الحجة ، ويبكت الخصم ، ويوضح الأمر .
فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر ، وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها ; فراجع إليها في محصول الأمر ، ويتبع ذلك الترغيب والترهيب ، والأمثال والقصص ، وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك .
فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلا وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه ; إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنيين الباقيين وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية ترفعا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم ، أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن كانت ; فجاءت السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها ، وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى ; فافتتحت السورة بثلاث جمل : [ ص: 271 ] إحداها وهي الآكد في المقام بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه ، وذلك قد أفلح المؤمنون إلى قوله قوله هم فيها خالدون [ المؤمنون : 1 11 ] والثانية : بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جاريا على مجاري الاعتبار والاختيار بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلا .
والثالثة : بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق ، والإعانة على إقامة الحياة ، وأن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما ، وكفى بهذا تشريفا وتكريما .
ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور منها كونهم من البشر ; ففي قصة نوح مع قومه قولهم : ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم [ المؤمنون : 24 ] ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم ; أي : من البشر لا من الملائكة ; فقالوا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه الآية [ المؤمنون : 33 ] ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ المؤمنون : 34 ] إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا [ المؤمنون : 38 ] أي : هو من البشر ثم قال تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه [ المؤمنون : 44 ] فقوله : رسولها مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها [ ص: 272 ] ثم ذكر موسى وهارون ورد فرعون وملئه بقولهم أنؤمن لبشرين مثلنا [ المؤمنون : 47 ] إلخ هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية ، تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام ، ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لا غض فيه ، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر ، يأكلون ويشربون كجميع الناس ، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى ; فقال بعد تقرير رسالة موسى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية [ المؤمنون : 50 ] وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان ، ثم قال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات [ المؤمنون : 51 ] أي : هذا من نعم الله عليكم ، والعمل الصالح شكر تلك النعم ، ومشرف للعامل به ; فهو الذي يوجب التخصيص لا الأعمال السيئة ، وقوله : وإن هذه أمتكم أمة واحدة [ المؤمنون : 52 ] إشارة إلى التماثل بينهم ، وأنهم جميعا مصطفون من البشر ، ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ ; فقال : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : وهم لها سابقون [ المؤمنون : 57 61 ] وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا ; فهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود مضافا إلى المعنى الآخر ، وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية ; استكبارا من أشرافهم ، وعتوا على الله ورسوله ; فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار ، وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة ، والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف ; فإن التارات السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف ، وأصله العدم ; فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار ، والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها ، ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة [ ص: 273 ] الجارية ; فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق ، فهذا كله كالتنكيت عليهم ، والله أعلم .
ثم ذكر القصص في قوم نوح : فقال الملأ الذين كفروا من قومه [ المؤمنون : 24 ] والملأ هم الأشراف .
وكذلك فيمن بعدهم : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم الآية [ المؤمنون : 33 ] وفي قصة موسى أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [ المؤمنون : 47 ] ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام ، ثم قوله : فذرهم في غمرتهم حتى حين إلى قوله : لا يشعرون [ المؤمنون : 54 56 ] رجوع إلى وصف أشراف قريش وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين ; فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قوله : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون [ المؤمنون : 57 ] ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم ، وذكر النعم عليهم ، والبراهين على صحة النبوة ، وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية ، ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين ، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين ; فهذا النظر إذا اعتبر كليا في السورة وجد على أتم من هذا الوصف ، لكن على منهاجه وطريقه ، ومن أراد الاعتبار في [ ص: 274 ] سائر سور القرآن ; فالباب مفتوح ، والتوفيق بيد الله ; فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد .
وبالجملة ; فحيث ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ; كنوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ; فإنما ذلك تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام وتثبيت لفؤاده لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة ، فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله ، وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال ، والجميع حق واقع لا إشكال في صحته ، وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذي في النظر في القرآن لمن أراد فهم القرآن ، والله المستعان .