فصل
هو التعدي على الرقاب والتعدي مختص بالتعدي على المنافع دون الرقاب . الغصب عند الفقهاء
فإذا قصد الغاصب تملك رقبة المغصوب فهو منهي عن ذلك آثم فيما فعل من جهة ما قصد ، وهو لم يقصد إلا الرقبة فكان النهي أولا عن الاستيلاء على الرقبة .
وأما التعدي على المنافع فالقصد فيه تملك المنافع دون الرقبة فهو منهي عن ذلك الانتفاع من جهة ما قصد ، وهو لم يقصد [ ص: 426 ] إلا المنافع ، لكن كل واحد منهما يلزمه الآخر بالحكم التبعي ، وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول .
فإذا كان غاصبا فهو ضامن للرقاب لا للمنافع ، وإنما يضمن قيمة الرقبة يوم الغصب لا بأرفع القيم ; لأن الانتفاع تابع .
فإذا كان تابعا صار النهي عن الانتفاع تابعا للنهي عن الاستيلاء على الرقبة فلذلك لا يضمن قيمة المنافع إلا على قول بعض العلماء بناء على أن المنافع مشاركة في القصد الأول والأظهر أن لا ضمان عليه لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : [ ص: 427 ] الخراج بالضمان ، وسبب ذلك ما ذكر من أن النهي عن الانتفاع غير مقصود لنفسه ، بل هو تابع للنهي عن الغصب ، وإنما هو شبيه بالبيع وقت النداء .
فإذا كان البيع مع التصريح بالنهي صحيحا عند جماعة من العلماء لكونه غير مقصود في نفسه فأولى أن يصح مع النهي الضمني ، وهذا البحث جار في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أم لا ، فإن قلنا : غير واجب ، فلا إشكال ، وإن قلنا : واجب فليس وجوبه مقصودا في نفسه ، وكذلك مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده ، فإن قلنا بذلك فليس بمقصود لنفسه ، فلا يكون للأمر والنهي حكم منحتم إلا عند فرضه مقصودا بالقصد الأول وليس [ ص: 428 ] كذلك .
أما إذا كان متعديا فضمانه ضمان التعدي لا ضمان الغصب ، فإن الرقبة تابعة .
فإذا كان كذلك صار النهي عن إمساك الرقبة تابعا للنهي عن الاستيلاء على المنافع فلذلك يضمن بأرفع القيم مطلقا ، ويضمن ما قل ، وما كثر .
وأما ضمان الرقبة في التعدي فعند التلف خاصة من حيث كان تلفها عائدا على المنافع بالتلف بخلاف الغصب في هذه الأشياء .
ولو كان أمرهما واحدا لما فرق بينهما مالك ولا غيره قال : مالك في الغاصب والسارق إذا حبس المغصوب ، أو المسروق عن أسواقه ، ومنافعه ، ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه ، وإن كان مستعيرا ، أو متكاريا ضمن قيمته .
[ ص: 429 ] وهذا التفريع إنما هو على المشهور في مذهب مالك ، وأصحابه ، وإلا فإذا بنينا على غيره فالمأخذ آخر والأصل المبني عليه ثابت .
فالقائل باستواء البابين ينبني قوله على مآخذ .
منها القاعدة التي يذكرها أهل المذهب ، وهي هل الدوام كالابتداء ، فإن قلنا ليس الدوام كالابتداء فذلك جار على المشهور في الغصب فالضمان يوم الغصب والمنافع تابعة ، وإن قلنا إنه كالابتداء فالغاصب في كل حين كالمبتدئ للغصب فهو ضامن في كل وقت ضمانا جديدا فيجب أن يضمن المغصوب بأرفع القيم كما قال ابن وهب ، وأشهب ، وعبد الملك . قال : لأن عليه أن يرده في كل وقت ، ومتى لم يرده كان كمغتصبه حينئذ . ابن شعبان
ومنها القاعدة المتقررة ، وهي أن الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها تعالى ، وإنما للعبد منها المنافع ، وإذا كان كذلك فهل القصد إلى [ ص: 430 ] ملك الرقاب منصرف إلى ملك المنافع أم لا ، فإن قلنا هو منصرف إليها ; إذ أعيان الرقاب لا منفعة فيها من حيث هي أعيان ، بل من حيث اشتمالها على المنافع المقصودة فهذا مقتضى قول من لم يفرق بين الغصب والتعدي في ضمان المنافع ، وإن قلنا ليس بمنصرف فهو بمقتضى التفرقة .
ومنها أن الغاصب إذا قصد تملك الرقبة فهل يتقرر له عليها شبهة ملك بسبب ضمانه لها أم لا ، فإن قلنا : إنه يتقرر عليها شبهة مالك كالذي في أيدي الكفار من أموال المسلمين كان داخلا تحت قوله - عليه الصلاة والسلام - : فكانت كل غلة وثمن يعلو أو يسفل ، أو حادث يحدث للغاصب وعليه بمقتضى الضمان كالاستحقاق والبيوع الفاسدة ، وإن قلنا : إنه لا يتقرر له عليها شبهة ملك ، بل المغصوب على ملك صاحبه فكل ما يحدث من غلة ، ومنفعة فعلى ملكه ، فهي له ، فلا بد للغاصب من غرمها ; لأنه قد غصبها أيضا . الخراج بالضمان
وأما ما يحدث من نقص فعلى الغاضب بعدائه ; لأن نقص الشيء [ ص: 431 ] المغصوب إتلاف لبعض ذاته فيضمنه كما يضمن المتعدي على المنافع ; لأن قيام الذات من جملة المنافع هذا أيضا مما يصح أن يبنى عليه الخلاف .
ومنها أن يقال : هل المغصوب إذا رد بحاله إلى يد صاحبه يعد كالمتعدي فيه ; لأن الصورة فيهما معا واحدة ولا أثر لقصد الغصب إذا كان الغاصب قد رد ما غصب استرواحا من قاعدة مالك في اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد ، وإلغائه الوسائط أم لا يعد كذلك ؟ فالذي يشير إليه قول مالك هنا أن للقصد أثرا ، وظاهر كلام ابن القاسم أن لا أثر له ولذلك لما قال مالك في الغاصب ، أو السارق إذا حبس الشيء المأخوذ عن أسواقه ، ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه ، وإن كان مستعيرا ، أو متكاريا ضمن قيمته قال ابن القاسم : لولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما جعل على المتكاري .
فهذه أوجه يمكن إجراء الخلاف في مذهب مالك ، وغيره عليها مع بقاء القاعدة المتقدمة على حالها ، وهى أن ما كان من الأوامر ، أو النواهي بالقصد الأول فحكمه منحتم ، بخلاف ما كان منه بالقصد الثاني .
فإذا نظر في هذه الوجوه بالقاعدة المذكورة ظهر وجه الخلاف وربما خرجت عن ذلك أشياء ترجع إلى الاستحسان ولا تنقض أصل القاعدة والله أعلم .
واعلم أن مسألة إذا عرضت على هذا الأصل تبين منه وجه صحة مذهب الجمهور القائلين بعدم بطلانها ، ووجه مذهب الصلاة في الدار المغصوبة ابن [ ص: 432 ] حنبل ، وأصبغ ، وسائر القائلين ببطلانها .
وقد أذكرت هذه المسألة مسألة أخرى ترجع إلى هذا المعنى ، وهي .