[ ص: 27 ] المسألة الثالثة
وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل ، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل . كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض [ ص: 28 ] الشريعة
أما أن العمل المناقض باطل فظاهر ، فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة .
وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها ، فالدليل عليه أوجه :
أحدها : أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها ، إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح ، فإذا جاء الشارع [ ص: 29 ] بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي منه تحصل المصلحة فأمر به أو أذن فيه ، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهى عنه رحمة بالعباد .
فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه ، فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع ، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا ، فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار ، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا ، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة .
والثاني : أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا فهو عند هذا القاصد ليس بحسن ، وما لم يره الشارع حسنا فهو عنده حسن ، وهذه مضادة أيضا .
والثالث : أن الله تعالى يقول : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى [ النساء : 115 ] الآية .
وقال : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ، من عمل بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا والأخذ في خلاف مآخذ [ ص: 30 ] الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة . عمر بن عبد العزيز
والرابع : أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة; لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلا ، وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به .
والخامس : أن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها [ ص: 31 ] في الأمر والنهي ، فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد ، إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة ، بل قصد قصدا آخر ، جعل الفعل أو الترك وسيلة له ، فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده ، وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه .
والسادس : أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله لأن من آياته أحكامه التي شرعها ، وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .
والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجلها ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون [ التوبة : 65 ] .
والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهرة ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .
وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم ، والمال لا لإقرار للواحد الحق بالوحدانية ، والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح ، والذبح لغير الله ، والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر في الدنيا ، والسلف ليجر به نفعا ، والوصية بقصد المضارة للورثة ، ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها ، وما أشبه ذلك .
وقد يعترض هذا الإطلاق بأشياء :
منها ما تقدم في المسألة الأولى; ، وما ذكر [ ص: 32 ] معهما ، فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما ، وقد تقدم جوابه ، ومن ذلك كنكاح الهازل وطلاقه ، فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حالة الاختيار كالنكاح والطلاق والعتق واليمين والنذر ، وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك ، لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه ، إلى مسائل من هذا النحو . المكره بباطل
ومنها أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا وغير ذلك - مقصود به خلاف ما قصده الشارع ، مع أنها عند القائل بها صحيحة ، ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع فلا يلزم أن يكون باطلا .
والجواب أن مسائل الإكراه إنما قيل بانعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ، ثم يصححه; لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي ، والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء ، فكيف يقال : إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع ، هل هذا إلا عين المحال .
وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا ، فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصدا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد ، بل الشريعة لهذا [ ص: 33 ] وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل ، فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه ، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب ، وفي سائر المصالح العامة والخاصة ، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة ، فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع ، خاصة وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام ، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة ولهذا موضع يذكر فيه في هذا القسم إن شاء الله تعالى .