فصل
ثلاثة أقسام : والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي
أحدها : ما هو حق لله خالصا كالعبادات ، وأصله التعبد كما تقدم ، فإذا طابق الفعل الأمر ; صح ، وإلا ; فلا .
والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى ، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس ، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى ، فإذا وقع طابق قصد الشارع وإن لا ; خالف ، وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل ; فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل .
[ ص: 540 ] وأيضا ; فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عندما حده الشارع ; فيكفي في ذلك عدم تحقق البراءة منه [ وإن لم تحصل البراءة ] ، وعدم تحقق البراءة [ منه إن لم تحصل المطابقة ، وعدم تحقيق البراءة ] موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق ، لا بفعل غير مطابق .
والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر ; فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهي عنه إما بناء على أن النهي يقتضي الفساد بإطلاق ، وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهي عنه غير مطابق لقصد الشارع ; إما بأصله ; كزيادة صلاة سادسة ، أو ترك الصلاة ، وإما بوصفه ; كقراءة القرآن في الركوع والسجود ، والصلاة في الأوقات المكروهة ; إذ لو كان مقصودا لم ينه عنه ، ولأمر به أو أذن فيه ; فإن الإذن هو المعروف أولا بقصد الشارع فلا تتعداه .
فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهي عنه بعد الوقوع ، أو المأمور به من غير المطابق ; فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده ، وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم ، وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك ; كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الانفكاك ، وإما لعد النازلة من باب المفهوم والمعنى المعلل بالمصالح ; فيجري على حكمه ، وقد مر أن هذا قليل ، وأن التعبد هو العمدة .
والثاني : ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد ، والمغلب فيه حق الله ، وحكمه راجع إلى الأول ; لأن حق العبد إذا صار مطرحا شرعا ; فهو كغير المعتبر ، إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر ، والفرض خلافه كقتل النفس ; إذ ليس [ ص: 541 ] للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها ، فإذا رأيت من يصحح المنهي أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع ; فذلك للأمور الثلاثة الأول ، ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب .
والثالث : ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب ، وأصله معقولية المعنى ، فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي ; فلا إشكال في الصحة ; لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له ، وإن وقعت المخالفة فهنا نظر ; أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد ، فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع ، على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ ، أو لا ; فإن فرض غير حاصل ; فالعمل باطل لأن مقصود الشارع لم يحصل ، وإن حصل - ولا يكون حصوله إلا مسببا عن سبب آخر غير السبب المخالف - ; صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد ، ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري ; لأن النهي لأجل فوت العتق ، فإذا حصل ; فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك ، وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق [ ص: 542 ] الغير إذا أسقط ذو الحق حقه ; لأن النهي قد فرضناه لحق العبد ، فإذا رضي بإسقاطه ; فله ذلك ، وأمثلة هذا القسم كثيرة ، فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع ; فذلك لأحد الأمور الثلاثة .