[ ص: 488 ] المسألة الرابعة عشرة
العوائد المستمرة ضربان :
أحدهما : ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا ، أو نهى عنها كراهة أو تحريما ، أو أذن فيها فعلا وتركا . العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ،
والضرب الثاني : هي . العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي
فأما الأول ; فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية ، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة ، وفي الأمر بإزالة النجاسات ، وطهارة التأهب للمناجاة ، وستر العورات ، والنهي عن الطواف بالبيت على العري ، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس ، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة ; فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع ; فلا تبديل لها وإن اختلف آراء المكلفين فيها ; فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا ، حتى يقال مثلا : إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه ، أو إن كان كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح ; فلنجزه ، أو غير ذلك ، إذ لو صح مثل هذا لكان [ ص: 489 ] نسخا للأحكام المستقرة المستمرة ، والنسخ بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - باطل ، فرفع العوائد الشرعية باطل .
وأما الثاني ; فقد تكون تلك العوائد ثابتة ، وقد تتبدل ، ومع ذلك ; فهي أسباب لأحكام تترتب عليها .
فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب ، والوقاع والنظر ، والكلام والبطش والمشي ، وأشباه ذلك ، وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع ، فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما .
والمتبدلة :
منها : ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح ، وبالعكس ، مثل كشف الرأس ; فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع ، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية ، وغير قبيح في البلاد المغربية ; فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك ; فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة ، وعند أهل المغرب غير قادح .
ومنها : ما يختلف في التعبير عن المقاصد ; فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبارة أخرى ، إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم ، أو [ ص: 490 ] بالنسبة إلى الأمة الواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور ، أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني ، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما ، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر ، أو كان مشتركا فاختص ، وما أشبه ذلك ، والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده ، وهذا المعنى يجري كثيرا في الأيمان والعقود والطلاق ، كناية وتصريحا .
ومنها : كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول ، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة ، أو بالعكس ، أو إلى أجل كذا دون غيره ; فالحكم أيضا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه . ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها ;
[ ص: 491 ] ومنها : كالبلوغ ; فإنه يعتبر فيه عوائد الناس من الاحتلام أو الحيض ، أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض ، وكذلك الحيض يعتبر فيه إما عوائد الناس بإطلاق أو عوائد لذات المرأة أو قراباتها ، أو نحو ذلك ; فيحكم لهم شرعا بمقتضى العادة في ذلك الانتقال . ما يختلف بحسب أمور خارجة عن المكلف ،
ومنها : ما يكون في أمور خارقة للعادة ; كبعض الناس تصير له خوارق العادات عادة ، فإن الحكم عليه يتنزل على مقتضى عادته الجارية له المطردة الدائمة ، بشرط أن تصير العادة الأولى الزائلة لا ترجع إلا بخارقة أخرى ; كالبائل أو المتغوط من جرح حدث له حتى صار المخرج المعتاد في الناس بالنسبة إليه في حكم العدم ; فإنه إن لم يصر كذلك ; فالحكم للعادة العامة ، وقد يكون الاختلاف من أوجه غير هذه ، ومع ذلك ; فالمعتبر فيها من جهة الشرع أنفس تلك العادات ، وعليها تتنزل أحكامه لأن الشرع إنما جاء بأمور معتادة ، جارية على أمور معتادة كما تقدم بيانه .